عقب الاعتداء على إيران… أوراق القوة تُطرح في مفاوضات عُمان: هل لا تزال التهديدات بشنّ حرب مجرد خدعة سياسية؟

✍️ نجاح محمد علي – صحفي وباحث في الشؤون الإيرانية والإقليمية:
لم تعد المباحثات الجارية بين إيران والولايات المتحدة في سلطنة عُمان تُدار في ظروف غامضة أو خلف الكواليس. فالدعوات الأميركية – لا سيما من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب – لاستئناف المفاوضات، جاءت بعد أيام قليلة من عدوان عسكري واسع، شاركت فيه واشنطن بشكل مباشر إلى جانب الكيان الصهيوني ضد أهداف داخل الأراضي الإيرانية.
وعلى الرغم من حجم الخسائر البشرية والمادية، ردّت طهران بعملية دفاعية نوعية كشفت من خلالها عن جهوزيتها العسكرية وتوسّع بنك أهدافها في عمق الجغرافيا المعادية، من البحر الأحمر حتى شرق المتوسط. وهنا، تبدّلت قواعد الاشتباك، وبدأت مرحلة جديدة أطلق عليها “التفاوض تحت النار”.
كانت إيران قد دخلت هذه المرحلة من المفاوضات – وإن بشكل غير مباشر – قبل العدوان، مستندة إلى مزيج متكامل من أوراق القوة الصلبة والناعمة: من القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة الدقيقة، إلى التأثير على شرايين الطاقة العالمية، بالإضافة إلى خيار الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) وتنامي الأصوات الشعبية والسياسية الداعية إلى امتلاك السلاح النووي كخيار مشروع للردع.
وعلى الرغم من التجارب المرة السابقة التي أثبتت عدم التزام واشنطن بتعهداتها، خاصة في ظل العقوبات المتكررة وسياسة الضغط القصوى، فإن التوجه نحو التفاوض بعد العدوان لم يكن فقط لحل الملف النووي، بل أولاً لاحتواء تداعيات الحرب المفتوحة، ومنع تحوّل الضغط الخارجي إلى فتنة داخلية، وإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية ضمن توافق وطني قائم على مبدأ “الرد والردع”.
ومع ذلك، فإن اتخاذ مثل هذا القرار في إيران لا يقتصر على السلطة التنفيذية، بل يجب أن يعكس إرادة النظام العليا وفق الدستور الإيراني، ويتطلب موافقة القائد الأعلى للثورة. بعض الجهات الداخلية اعتبرت العودة إلى التفاوض في هذا التوقيت بمثابة “تجرّع كأس السم”، رغم إقرارها بضرورته ضمن إدارة ميدانية متعددة الأبعاد.
وقد أظهر العدوان الأخير أن المفاوضات لم تعد فصلاً منفصلاً عن المعركة. فطهران تواصل نضالها السياسي والدبلوماسي وهي تمتلك عدة أوراق قوة، أبرزها:
-
القدرات العسكرية والدفاعية المتطورة التي أثبتت فعاليتها الميدانية وغيّرت معادلة الردع، سواء من خلال الصواريخ الدقيقة أو المسيّرات الهجومية أو منظومات الدفاع الجوي المتكاملة.
-
التحكم بمضيقي هرمز وباب المندب وتأثيره المباشر على أسعار النفط العالمية، كما ظهر جلياً عند ارتفاع الأسعار فور إعلان إيران التعبئة بعد العدوان.
-
النفوذ في استقرار المنطقة من اليمن إلى لبنان والعراق وسوريا، حيث تمتلك إيران أدوات فعالة للرد على الوجود الأميركي وحلفائه.
-
الرفض الدولي الواسع لأي حرب شاملة ضد إيران نظراً لتداعياتها غير المتوقعة على الاقتصاد والأمن العالمي، مما جعل واشنطن وتل أبيب في عزلة سياسية متزايدة.
-
هشاشة القواعد الأميركية في الخليج والقرن الأفريقي وشرق المتوسط، ما يجعل أي تصعيد عسكري مغامرة باهظة الثمن.
-
التداعيات البيئية والإنسانية لأي عدوان شامل في منطقة تعج بالبنى التحتية النفطية والبحرية الحساسة.
-
التحولات الطارئة في المعادلة الدولية، لا سيما مع دخول قوى كبرى مثل الصين وروسيا على خط الوساطة والردع.
-
الانسحاب المحتمل من معاهدة NPT وفتح ملف التسلح النووي كـ”حق سيادي” في ظل انعدام الثقة بالضمانات الغربية.
في المقابل، ما زالت الولايات المتحدة تستخدم التهديد بالقوة كوسيلة لتحسين موقفها التفاوضي، رغم أن العدوان قد فشل ولم يُفلح في كسر إرادة إيران. وبالنسبة لصناع القرار في واشنطن، فإن موافقة طهران على التفاوض تمثل فرصة للدعاية الداخلية وترويج “نصر وهمي”، يخدم الحملة الانتخابية، خاصة لدونالد ترامب الذي يسعى لتحقيق “إنجاز تفاوضي” يعيد بعض ما خسره في الشرق الأوسط.
لكن إيران، وإن قبلت بمبدأ التفاوض غير المباشر، لا تعتبره ساحة لتقديم التنازلات المجانية. بل تدير مفاوضاتها من موقع قوة، وتسعى بعد أن أثبتت عدم خشيتها من المواجهة، إلى فرض معادلة جديدة:
لا تفاوض تحت التهديد، بل تفاوض من موقع الندّية والمقاومة.
وعليه، فإن مستقبل المفاوضات في سلطنة عمان مرهون بعدة سيناريوهات:
-
الأول: إذا أصرّ الطرفان على أقصى مطالبهما – كإصرار إيران على رفع كامل للعقوبات مقابل استمرار التخصيب، وتمسك واشنطن بتصفير التخصيب مع بقاء العقوبات – فالفشل حتمي.
-
الثاني: إذا اتجها إلى حد أدنى مشترك، قد يتم التوصل إلى تفاهم مؤقت يوقف التصعيد دون أن يحلّ الخلافات الجذرية.
-
الثالث: إذا استمرت أميركا بسياسة المماطلة والضغط، فقد توسّع إيران برنامجها النووي وتقترب من العتبة العسكرية، مما يدفع المنطقة نحو تصعيد تدريجي.
-
الرابع: قد تبقى المفاوضات رمزية أو إعلامية فقط؛ إذ تسعى واشنطن لعرض داخلي، بينما تستخدمها طهران لإسقاط التهم وإبراز عقلانيتها.
وسط كل ذلك، تبقى ورقة واشنطن الأهم هي التهديد بالحرب. لكن هذه الورقة، بعد العدوان الأخير الذي أثبت محدودية تأثيرها، قد احترقت، وأصبح استخدامها يرتد سلباً – ميدانياً واقتصادياً. فخدعة التهديد، أو ما يُعرف بـ”البلوف”، باتت مكشوفة، ولم تعد تُرهب إيران التي تخوض معاركها على أساس قاعدة:
“كل تهديد فرصة للمواجهة والتثبيت”.
خلاصة القول: إيران اليوم لا تفاوض كما كانت تفعل في السنوات السابقة. فبعد العدوان، تغيّر كل شيء. طهران تتفاوض من موقع المتضرر الصبور، لكنها تصرّ على أن أي اتفاق يجب أن يحفظ كرامتها الوطنية ويعيد التوازن الاستراتيجي المختل.
والميدان، كما يبدو، قد تُرجم فعلاً إلى طاولة المفاوضات.
ومن يظنّ أنه قادر على انتزاع مكاسب من وسط النار، فقد جرّب… وفشل.