القسم السياسي

الإعلام المقاوم ومواجهة التطبيع: ما لا تستطيع البيانات الرسمية القيام به

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

التطبيع الإعلامي هو نهج تستخدمه بعض المنصات الإعلامية العربية، سواء كانت مطبوعة، صوتية، مرئية أو إلكترونية، من أجل الترويج للتطبيع السياسي عبر التركيز المنهجي على داعميه وتسليط الضوء عليهم.
التطبيع الثقافي ذو أهمية كبيرة بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، الذي يركز على النفوذ في الجبهة الثقافية والإعلامية من خلال مؤسساته الثقافية، الفنية، الإعلامية والأكاديمية، بغية ترويج الأيديولوجيا الصهيونية، تحريف الحقائق، وتبييض صورة الاحتلال الإجرامية والعنصرية. بعض الأعمال الفنية الصهيونية التي بثتها القنوات العربية ساهمت في تحقيق هذا الهدف.
أظهرت السنوات الأخيرة أن البيانات الرسمية، مهما كانت متعددة أو حادة، أضعف من أن تحدث تأثيرًا حقيقيًا في مسار التطبيع، خاصة إذا صدرت عن أنظمة لا تملك إرادة إلا ما يُملى عليها. لكن الإعلام الشعبي والمستقل، وخصوصًا الإعلام المقاوم، يمتلك شيئًا تفتقده تلك الأنظمة: القدرة على التأثير في الوعي، إثارة المشاعر الجماعية، وتعطيل سرديات العدو.

أولاً: التطبيع الإعلامي… أخطر وجوه المشروع

التطبيع الإعلامي لا يقتصر على حضور شخصيات صهيونية في الشاشات العربية أو تغطية أحداث مشتركة فحسب، بل هو مشروع شامل يهدف إلى خلق فضاء نفسي جديد يتقبّل فيه الاحتلال كـ«جار طبيعي» وشريك مهم في «السلام والتنمية». يبدأ هذا المشروع بتغيير المفردات، حيث تُحذف كلمات مثل «احتلال»، «عدو» و«نكبة»، وتُستبدل بعبارات مثل «دولة»، «شريك» و«الطرف الآخر».
مظاهر التطبيع الإعلامي في الساحة العربية
يظهر التطبيع الإعلامي بأشكال متعددة، أهمها:
•التطبيع في الأداء الإعلامي: بعض الصحفيين الداعمين للتطبيع لم يعودوا يترددون في السفر للاحتلال أو الظهور إلى جانب صحفيين صهاينة في وسائل إعلام غربية بلا أي خجل.
•خط التحرير الداعم للتطبيع: بعض الصحف والقنوات تبنت خط تحرير يدعم التطبيع، ليس طوعًا بل بسبب ارتباطها بمؤسسات سياسية تدعمه علنًا أو سرًا.
•الإفراط في التطبيع: بعض الإعلاميين وصلوا إلى حد رفع شعارات مثل «كلنا إسرائيليون» ويفتخرون بالتواصل مع الاحتلال حتى في ذروة عدوانه على الفلسطينيين واللبنانيين، خصوصًا بعد إصدار أوامر اعتقال لرئيس وزرائه كـ«مجرم حرب».
•سفر الإعلاميين العرب والمسلمين للتطبيع: هذه الظاهرة لا تقتصر على السفر فقط، بل تشمل التفاخر بالارتباط بالاحتلال، ودفاع بعض المدونين والسياسيين العرب، خاصة العراقيين، عن الاحتلال والهجوم المباشر والفظ على إيران وكل أشكال المقاومة.
هذا التطبيع الناعم أخطر بكثير من البيانات الرسمية، لأنه يستهدف العمق الثقافي للشعوب، ويعيد تشكيل الوعي الجمعي من خلال التكرار، التأثير العاطفي والمحتوى الخفي.

ثانيًا: ما لا تستطيع البيانات الرسمية تحقيقه

رغم كثرة البيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسات عربية، من وزارات الثقافة إلى الاتحادات المهنية، ضد التطبيع، إلا أن هذه المواقف تبقى غالبًا حبرًا على ورق ولا تترجم إلى سياسات فعلية أو حملات توعية مؤثرة. السبب واضح: معظم هذه المؤسسات تابعة لأنظمة أكثر اهتمامًا بعلاقاتها الدولية منها بوعي شعوبها.
لذا، لا تكفي البيانات أو الإعلانات الرمزية وحدها. المعركة ضد التطبيع هي معركة طويلة الأمد للوعي، لا تحسم ببيان غضب أو إدانات محتشمة.

ثالثًا: الإعلام المقاوم كخط أمامي للمواجهة

هنا يظهر دور الإعلام المقاوم، سواء عبر القنوات التلفزيونية، المنصات الرقمية أو المحتوى التوعوي على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الإعلام يمكنه:
•كشف سرد التطبيع: من خلال برامج حوارية، تحقيقات ووثائقيات، يمكن فضح العلاقات السرية، الامتيازات السياسية والصفقات الاقتصادية التي تتم تحت غطاء «السلام» وتأثيرها المدمر على القضية الفلسطينية والشعوب العربية.
•إعادة توجيه البوصلة: التركيز على محور المقاومة كأداة عملية وليس مجرد خطاب دفاعي، يفتح آفاقًا جديدة أمام الشعوب، خصوصًا الشباب المستهدفين من منصات الترفيه الثقافي والتطبيع.
•إعادة إنتاج رموز المقاومة: مقابل ترويج رموز «السلام» المزيفة، يمكن للإعلام المقاوم إحياء الرموز الوطنية والدينية والثورية التي صمدت في وجه التطبيع، من مفكرين، مجاهدين، شهداء وقادة دفعوا ثمن مواقفهم.
•إنتاج محتوى مقاوم متنوع: من الأناشيد الوطنية إلى الرسوم المتحركة، القصص المصورة والفيديوهات القصيرة على تيك توك، فالمعركة اليوم على «الترند» وليس صفحات الصحف. من يسيطر على قلب وعقل الجمهور ينتصر.

رابعًا: المواجهة تبدأ من اللغة

واحدة من أقوى أسلحة الإعلام المقاوم ضد التطبيع هي اللغة. يجب الاستمرار في استخدام مفردات المقاومة: الاحتلال، نكبة، تطبيع خائن، انتفاضة، أسرى، حرية… أي محاولة لتقليل أهمية هذه الكلمات أو استبدالها بعبارات ناعمة مثل «الطرف الإسرائيلي»،

«أزمة فلسطين» أو «المسألة الإسرائيلية» هي جزء من عملية التطبيع الذهني.

خامسًا: كيف نحول الإعلام إلى سلاح فعال ضد التطبيع؟

•دعم المنصات الحرة والمستقلة: التحدي الأكبر أمام منصات الإعلام المستقلة المعادية للتطبيع هو التمويل. يمكن إطلاق حملات تمويل جماعي عبر منصات رقمية موثوقة تستهدف الجمهور العربي والمسلم الداعم للقضية.
•يمكن للمنظمات المدنية والجمعيات الثقافية إنشاء صناديق دعم خاصة بتلك المنصات، مع آليات شفافة لتوزيع الموارد. مثلاً، منصة إلكترونية لجمع التبرعات لتغطية تكاليف إنتاج الوثائقيات أو التحقيقات التي تكشف عن التطبيع.
•تشجيع نماذج الاشتراك المالي الرمزي لدعم المحتوى الحر.
•تشكيل شبكة إعلامية عربية-إسلامية متكاملة: عبر تنسيق بين الإعلام المستقل في البلدان العربية والإسلامية لتوحيد الرؤية ضد التطبيع. يمكن تشكيل ائتلاف إعلامي يشمل قنوات تلفزيونية، مواقع إلكترونية ومنصات تواصل اجتماعي لتبادل محتوى مشترك كالتقارير المصورة والمقالات التحليلية والحملات الرقمية.
•إقامة مؤتمرات دورية (حضورية أو افتراضية) لتخطيط حملات مشتركة واستخدام تقنيات البث المباشر للوصول إلى جمهور عالمي.
•إطلاق حملات دورية ضد التطبيع:
•حملة سنوية لمقاطعة وسائل الإعلام المطبعة، باستخدام هاشتاغ موحد (#مقاطعة_إعلام_التطبيع) مع نشر قوائم للمنصات الداعمة للتطبيع وتقارير توثق ممارساتها.
•حملة إحياء يوم القدس العالمي بإنتاج محتوى خاص يركز على القضية الفلسطينية، مع استهداف الشباب عبر الشبكات الاجتماعية.
•حملات كشف سفراء التطبيع الثقافي عبر محتوى رقمي موثق ومحترف.
•تدريب الإعلاميين الشباب على سرديات بديلة: برامج تدريبية متخصصة تشمل:
•ورش عمل فنية لتعليم أدوات إنتاج المحتوى الحديث كالتحرير المرئي وتصميم الجرافيك والبودكاست.
•تعليم بناء سرد إعلامي قوي يستند إلى الحقائق التاريخية والإنسانية مع لغة مؤثرة تستهدف الجمهور العالمي.
•استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحليل البيانات الإعلامية وإنتاج محتوى تفاعلي مثل فيديوهات الريلز وتيك توك.
•التعاون الأكاديمي: شراكة مع الجامعات والمؤسسات الإعلامية لتقديم دورات معتمدة في الصحافة المقاومة.

إضافات عملية:

•إنشاء مرصد إعلامي مستقل: لرصد وتوثيق حالات التطبيع الإعلامي ونشر تقارير دورية تكشف هذه الممارسات مع بيانات مفتوحة للجمهور والباحثين.
•التعاون مع المؤثرين: الاستفادة من قوة مؤثري وسائل التواصل لنشر رسائل معادية للتطبيع عبر محتوى جذاب يستهدف الشباب.
•إنتاج محتوى متعدد اللغات: ترجمة المحتوى المعادي للتطبيع إلى الإنجليزية، الفرنسية والإسبانية لتوسيع دائرة التأثير خارج العالم العربي.
بهذه الخطوات العملية، يمكن للإعلام أن يتحول إلى أداة قوية لمواجهة التطبيع، تعزيز الوعي العام، والمساعدة في حشد الرأي العام ضد هذه السياسات.

لا صوت أعلى من صوت الوعي

قد يطبّع الحاكم، ويصمت البرلمان، وتُشترى المنصات، لكن الشعوب ليست للبيع. مصر والأردن مثالان واضحان على رفض الشعوب للتطبيع. إذا ما دعمنا الإعلام المقاوم، خططنا له واحترافنا أدائه، سيكون أقوى من كل البيانات والقنوات الرسمية العربية من المحيط إلى الخليج.
المعركة طويلة، لكنها معركة كرامة وهوية. الإعلام، حين يكون إلى جانب الحق، هو أقوى سلاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى