غروسي، ألمانيا، والمشروع السري “آتو”
كيف قلبت إيران المعادلات النووية الغربية من خلال كشفها؟

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
في يونيو 2025، وبينما كان العالم يشهد تصاعد الضغوط الإعلامية والعسكرية ضد إيران، لفتت تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، أنظار المراقبين الدوليين. غروسي تحدث عن “القدرة الكامنة” لألمانيا على إنتاج قنبلة نووية خلال بضعة أشهر في حال توفر الإرادة السياسية. هذه التصريحات التي بدت فنية ومحايدة في ظاهرها، وصفتها مصادر إيرانية بأنها محاولة استباقية لاحتواء كشف وشيك عن مشروع نووي سري يحمل الاسم الرمزي «آتو» داخل الأراضي الألمانية؛ مشروعٌ تمكّنت إيران من الحصول على وثائقه في إطار عملية استخباراتية معقّدة.
هذا التقرير يُسلّط الضوء على أبعاد هذا الكشف، تفاصيل مشروع «آتو»، دور غروسي، وتداعياته الدبلوماسية والاستراتيجية.
🔹 أ) الكشف الإيراني: وثائق مشروع «آتو»
قبل أشهر من العدوان الأمريكي-الإسرائيلي المشترك على إيران، نجحت الأجهزة الاستخباراتية للجمهورية الإسلامية في الوصول إلى وثائق شديدة السرية، كشفت عن برنامج خفي لتطوير أسلحة نووية داخل ألمانيا. بدايةً، تم الإشارة إلى هذه الوثائق بشكل غامض في بيانات وزارة الاستخبارات الإيرانية، وتحدثت عن أنشطة سرية لدولة أوروبية (ليست فرنسا أو بريطانيا) تهدف إلى تعزيز قدراتها النووية العسكرية. ولاحقًا، تأكد أن المقصود هي ألمانيا، الدولة التي طالما تصدرت شعارات مكافحة الانتشار النووي.
مشروع «آتو»، وفقًا للتسمية الرمزية الواردة في الوثائق الإيرانية، يُدار تحت غطاء برامج علمية وتقنية مدنية داخل ألمانيا، وتُظهر الوثائق أن شبكة من الشركات والمؤسسات العلمية في ولايتي بادن-فورتمبيرغ ونوردراين-وستفالن تُشرف على تنفيذه. من أبرز الشركات المذكورة:
-
شركة Sartorius (مختصة بالتكنولوجيا الحيوية)
-
شركة Zeiss (رائدة في البصريات الدقيقة)
-
شركة Linde (منتجة للغازات الصناعية)
ورغم أن نشاط هذه الشركات يبدو مدنيًا، إلا أنها، بحسب الوثائق، شاركت في تزويد المشروع بمعدات حساسة وتكنولوجيا ذات استخدام مزدوج، مثل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة والمواد المشعة اللازمة لتخصيب اليورانيوم.
الأخطر من ذلك، أن بعض الوثائق تُشير إلى وجود مراسلات سرية بين هذه الشركات وأجهزة أمنية غير أوروبية، خاصة في غرب آسيا. وتكشف هذه المراسلات عن تنسيق معقد لنقل التكنولوجيا والمعدات إلى منشآت سرية داخل ألمانيا. ومن بين الأدلة، وثيقة تتحدث عن اختبار وقود مفاعل نووي في منشأة بحثية قرب مدينة دوسلدورف، تحت غطاء “بحوث الطاقة النظيفة”، وهو ما يُعد خرقًا صريحًا لالتزامات ألمانيا بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT).
🔹 ب) دور غروسي: تحرّك استباقي لاحتواء الأزمة
رافائيل غروسي، المتهم سابقًا بالتحيز في تقاريره ضد البرنامج النووي الإيراني، أثار دهشة الأوساط الدولية بتصريحه المفاجئ حول قدرة ألمانيا على إنتاج قنبلة نووية خلال أشهر قليلة، بشرط وجود إرادة سياسية. ورغم أن التصريح بدا تقنيًا، إلا أن مصادر إيرانية تعتبره محاولة مقصودة لتقليل تأثيرات الكشف الإيراني وتحويله إلى “سيناريو افتراضي” لا إلى واقع مقلق.
وتؤكد طهران امتلاكها معلومات حول علاقات غير رسمية بين غروسي وأجهزة استخبارات غربية، بما في ذلك الكيان الصهيوني. وتشير تقارير استخباراتية إيرانية إلى أن غروسي قد سرّب معلومات حساسة تتعلق بموقعي نطنز وفردو النوويين، وهو ما ساهم في تسهيل الهجمات السيبرانية والعسكرية ضدهما في يونيو 2025. هذه الاتهامات تستند إلى وثائق ورسائل تم تسريبها، وتُعد طعنًا مباشرًا في حيادية غروسي المهنية.
وفي المقابل، يتجنب غروسي مرارًا إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية، بينما يواصل التركيز على مخاوف متعلقة بمخزون اليورانيوم الإيراني، متجاهلًا كليًا التهديدات الناتجة عن المشروع النووي الألماني؛ وهو ما يُفسَّر بأنه جزء من استراتيجية لاحتواء تداعيات الكشف الإيراني.
🔹 ج) تفاصيل مشروع «آتو»: وثائق دامغة وتداعيات خطيرة
الوثائق الإيرانية تكشف عن تفاصيل مذهلة تتعلق بالبنية التحتية لمشروع «آتو»، الذي يتم تنفيذه داخل منشآت سرية في ولاية نوردراين-وستفالن، لا سيما في محيط مدينة إيسن. وتُصنَّف هذه المنشآت علنًا كمراكز بحوث في مجال الطاقة النظيفة، إلا أنها تحتوي على أجهزة تخصيب اليورانيوم وتجهيزات لاختبار وقود المفاعلات النووية.
كما تتضمن الوثائق أسماء علماء ألمان وأجانب لديهم سوابق في التعاون مع مشاريع نووية ذات طابع مزدوج في منطقة الشرق الأوسط. وتُحدّد بعض الوثائق مسارات نقل معدات شديدة الحساسية، مثل أجهزة الطرد المركزي المتطورة والليزرات الخاصة، والتي تم تهريبها عبر وسطاء في دول ثالثة في غرب آسيا، خارج نطاق رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ويضع هذا الكشف ألمانيا في مواجهة أزمة ثقة داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن دورها في قيادة الدبلوماسية النووية الأوروبية كان يعتمد دائمًا على افتراض شفافيتها. كما أن ثبوت علم غروسي بهذه الأنشطة وسكوته عنها من شأنه أن يُلحق ضررًا بالغًا بمصداقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية كمؤسسة محايدة.
🔹 د) الرد الإيراني: استراتيجية الكشف التدريجي
في مواجهة هذا التصعيد، اعتمدت إيران نهج “الكشف المرحلي” كخطة مدروسة. ووفقًا للتقارير، تم تجهيز جزء من الوثائق للنشر العلني، على أن يتم الكشف عنها تدريجيًا في حال استمرار الضغوط السياسية والعسكرية على طهران. وتتضمن الوثائق المعدّة للنشر:
-
المواقع الدقيقة للمنشآت
-
أسماء الخبراء والعلماء المشاركين
-
مسارات التمويل والدعم اللوجستي
-
الجدول الزمني لتنفيذ المشروع
وتُخطط إيران لتقديم هذه الوثائق إلى هيئات دولية، مثل مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية والأمم المتحدة.
في الوقت نفسه، أدانت طهران صمت الوكالة حيال الهجمات على منشآتها النووية، واعتبرت ذلك مؤشرًا واضحًا على تسييس عمل الوكالة. وفي يوليو 2025، صادق البرلمان الإيراني على مشروع قانون لتعليق التعاون مع الوكالة، ردًا على تقارير غروسي التي وصفتها طهران بـ”المنحازة”.
كما تبذل طهران جهدًا إعلاميًا واسعًا عبر القنوات الدولية لرفع مستوى وعي الرأي العام العالمي بشأن مشروع «آتو» ودور غروسي المشبوه، ما يُظهر استراتيجية شاملة تمزج بين الاستخبارات والدبلوماسية والإعلام في الدفاع عن الحقوق النووية الإيرانية.
🔹 هـ) التداعيات الدولية ومصير العلاقة مع الوكالة
من شأن الكشف الإيراني عن مشروع «آتو» أن يعيد صياغة معادلات السياسة النووية العالمية. وإذا تم نشر الوثائق بشكل علني، ستواجه ألمانيا ضغوطًا شديدة من دول معاهدة عدم الانتشار، خصوصًا من دول حركة عدم الانحياز. هذا التطور قد يضعف من دور برلين في المفاوضات النووية، خاصة المتعلقة بإيران.
كما يُرجّح أن تُعاد مراجعة دور وحيادية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لا سيما إذا ثبت تورّط غروسي في التستر على المشروع أو في تسريب معلومات سرية.
بالنسبة لإيران، يُعد هذا الكشف ورقة ضغط قوية في وجه التهديدات الغربية، ويمكن توظيفها للحصول على تنازلات، كرفع العقوبات أو تقديم ضمانات أمنية. ومع ذلك، يبدو أن طهران مدركة لحساسية الموقف الأوروبي، وتسعى للموازنة بين تصعيد الأزمة واستثمار الوثائق بشكل تدريجي وفعّال.
أما الوكالة، فتواجه الآن خيارين صعبين: إما التصدي للاتهامات بشفافية، أو المخاطرة بفقدان جزء كبير من ثقتها الدولية، لا سيما لدى دول الجنوب العالمي.
🔚 خاتمة
يشكل كشف مشروع «آتو» من قبل إيران منعطفًا محوريًا في الصراع الدبلوماسي والإعلامي الراهن. فالوثائق المتوفرة لا تُظهر فقط انتهاكًا صارخًا من ألمانيا لالتزاماتها الدولية، بل تفضح أيضًا ضعف إدارة غروسي وتضارب المصالح داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وتسعى إيران، من خلال نهجها المدروس، إلى تقديم نفسها ليس كطرف متّهم، بل كلاعب قوي يمتلك أوراق استخباراتية ودبلوماسية مؤثرة. وإذا ما استمرت في هذا المسار، فقد تُحدث تحولًا في ميزان القوى داخل المشهد النووي العالمي، وتجبر الغرب على إعادة النظر في سياساته، خاصة في وقت باتت فيه تناقضات الخطاب المعادي لإيران أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.