الشام الجديد؛ إعادة تعريف المشرق العربي في ظل رؤية واشنطن وأنقرة والخليج

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
من واشنطن حتى أنقرة، مرورًا ببغداد وبيروت، يُرسم مشروعٌ ضخم ومعقّد. ليس عبر الزحف العسكري واحتلال النظم، بل من خلال تثبيت مصطنع، وابتسامات دبلوماسية، واستثمارات تبدو تنموية، لكنها في الباطن تنطوي على نظرة جيوسياسية وأمنية. يُطلق على هذا «المشرق الجديد»، وهو محاولة لإعادة تصميم منطقة عاشت أعوامًا من الحروب، والانقسامات الطائفية، والمنافسات الدولية. لكن هذه المرة، الأدوات ليست الدبابة أو الصاروخ، بل العقود الاقتصادية، النفوذ السياسي، وإعادة صياغة الهويات الوطنية.
واشنطن: غرفة الفكر وصناعة القرار
في قلب المشروع تكمن واشنطن، حيث تُصاغ خطط المنطقة وفق مصالح استراتيجية وتوازن قوى، لا وفق إرادة الشعوب. يرى صانعو القرار الأمريكي أن الشرق الأوسط بحاجة إلى إعادة إعمار، ليس لإعادة استقلال ودولة الشعوب، وإنما لتكون المنطقة أداة لتحقيق أهداف أمريكا وحلفائها. خطوط أنابيب الطاقة، الأسواق الغربية الجديدة، وتقليص نفوذ محور المقاومة، هي مفاصل هذا المخطط.
تصريح توماس باراك، المبعوث الأمريكي إلى سوريا، والمقرب من دوائر صنع القرار في واشنطن، حين قال: «لبنان يُعاد إلى دمشق»، لا يعد مجرد زلة دبلوماسية، بل رسالة واضحة: وجهة لبنان يجب أن تُدمج في مشروع كلي أكبر، حيث تُستبدل الهويات الوطنية والتاريخية بنظام جديد. هذا المشروع يُدعم ماليًا من الخليج ويدار سياسيًا من واشنطن، ويُطرح لبنان كواجهة لإظهار هذا التغيير.
دمشق: ضحية لإعادة كتابة الهوية
سوريا، التي كانت يوماً «قلب العالم العربي النابض»، لم تعد الموقع المحوري في هذا المخطط. فالمشرق الجديد يُريد سوريّة منزوعة من محور المقاومة، لا تدخل في صدام مع الكيان الصهيوني، وتتحول من دولة ذات عقيدة مقاومة إلى منفّذة لعقود اقتصادية وسياسية. النظام في دمشق، رغم صموده أمام الضغوط الخارجية، تجنّده اليوم عروض الخليج للاستثمار؛ شرط التخلّي عن النفوذ الإيراني والاندماج بالمشروع الجديد.
أنقرة: اللاعب الميداني والمنسّق
تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان تقف في مركز تنفيذ المشروع. لقاءاته المتكررة مع قيادات السنة في العراق، والاجتماعات المغلقة المرصودة والبصيرة الدقيقة لكل حراك، مجرّد مشاهد من سيناريو ضخم. تظهر صور أردوغان محاطًا برموز عراقية مبتسمة، في إشارة إلى أحادية الدور بسلطة عثمانية حديثة. تركيا تطمح لاستعادة نفوذ التّاريخ بوصفها وسيطًا ومحورًا في هندسة المشرق الجديد، مدعومة بخطوات واشنطن وتنسيق الخليج.
بيروت: واجهة التسليم
لبنان، الذي شكّل يوماً حصن المقاومة، يُحوّل إلى واجهة لنجاح المشروع. المقاومة اللبنانية، طويلاً رمزية الهوية الاجتماعية والسياسية، تُعزل برغم الضغط المالي والإعلامي والسياسي. التوازن الديمغرافي، النظام البنكي، وتشكيلة السلطة اللبنانية تُعاد كتابتها لتتماشى مع المشروع. الخليج يستثمر باسم التطوير، لكنه يشتري النفوذ ويغيّر الهوية. لبنان الآن ليس دولة ذات استقلال، بل بيضة عرض لمشروع إقليمي يُقلّص من مقاومته تدريجيًا.
بغداد: الهدف القادم
العراق، رغم أنه يبدو خارج المعادلة، إلا أنه الهدف الاستراتيجي التالي. العراق المجروح من حرب وتفجيرات، بات مستعدًا للاندماج عبر فئة من السنة الذين أصبحوا هدفًا للنفوذ الخارجي. ما يُطرح باسم «المصالحة الوطنية» هو محاولة لتفتيت السيطرة وتعزيز توافق العراق مع واشنطن وأنقرة والخليج. تنويه ماكرون في بغداد 2021 بـ «المشرق الجديد» كان إعلانًا ضمنيًا عن استهداف العراق لدمجه بهذا المخطط، مما يعني تراجع استقلاله السياسي وتهميش محوره المقاوم.
دعم المقاومة: ضرورة لإبقاء الهوية
في مواجهة هذا المشروع، تظل المقاومة في لبنان وغيرها، حصنًا أمام إعادة كتابة الهوية العربية. المقاومة ليست مجرد قوة عسكرية بل هوية ثقافية وسياسية حافظت على تماسك المنطقة. دعمها في كل من لبنان، سوريا، فلسطين والعراق واجب وطني وإنساني. المقاومة، بالوحدة الوطنية، قادرة على مقاومة المشروع الجديد. لبنان، كرمز للمقاومة، يجب حمايته من أن يصبح واجهة مشروع جيوسياسي. العراق كذلك، إن طالبه الضحية بخطوة أخرى، عليه رفض الدخول في هذا المخطط بحذر وتوحّد.
تحذير إلى العراق والمنطقة
المشروع باسم نمو ودبلوماسية، هو في العمق إعادة لاختراق الهوية وبناءها وفق مصالح الجهات الأجنبية. المشروع، بتمويل خليجي، وتنسيق تركي، وإدارة أمريكية، يرسم شرقًا نهائيًا بلا استقلال، ولا مقاومة، ولا هويات تاريخية. العراق، الذي لم يكتمل بناء دولته، يجب رفض الانخراط في «المشرق الجديد». التاريخ يعلمنا أن مكاسب مشاريع كـ «سايكس–بيكو» زوالها فوضى وتبعيات.
معادلة القوة في المشرق الجديد
ما يُحضّر خلف الستار هو معادلة نفوذ جديدة:
- سورية بلا مقاومة ودون صدام
- لبنان منزوعة الهويّة ومناهضة المقاومة
- أهل السنة في العراق مُدمجون في مشاريع اقتصادية وسياسية
مع شعار محوره: «لم تديروا أنفسكم؟ سنعيد تصميمكم».
الممسوخون في هامشِ المشروع
من يعارض هذا المشروع يُهمّش: لا حضور في الحوار ولا نصيب في صنع القرار. تُوجّه إليهم توصية بالعودة إلى نظامات قديمة (#سايكس_بيكو)، والبحث عن مفاهيم مثل الحكم والسيادة في كتب التاريخ. لكن تجربة منطقتنا تُثبت أن الشعوب رغم الضغوط، قادرة على التماسك وإعادة بناء هويتها.
في النهاية
المشرق الجديد قادم، بصيغة أمريكية من الغرب، تنسيق تركي، وتمويل خليجي. ولن ينجح إلا إذا سكتت شعوب المنطقة. دعم المقاومة، اليقظة والحفاظ على الوحدة الوطنية، هي عوامل الحفاظ على الهوية والسيادة. العراق، لبنان، سوريا، وكل شعوب المنطقة، يقفون بوجه التصميم الخطر لعدم تكرار التاريخ.