القسم السياسي

العراق في قلب المواجهة: استهداف النظام المؤقت وحرب هشّة تلوح في الأفق

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

تشهد منطقة غرب آسيا تحولات متسارعة، ويجد العراق نفسه في قلب هذه العاصفة؛ ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي الاستراتيجي، بل لأنه يُعدّ أحد الأركان الرئيسية لمحور المقاومة. هذا الموقع المركزي حوّل العراق إلى ساحة مواجهة حاسمة بين قوى المقاومة التي تسعى للحفاظ على كرامة الأمة وسيادتها، وبين المحور الأمريكي-الغربي الداعم للنظام المؤقت والذي يستخدم أدواته الإقليمية لفرض الهيمنة.

العراق، بتاريخه النضالي ومكانته السياسية والعسكرية، ليس مجرد ساحة صراع، بل يمثل العمق الاستراتيجي الذي يحدد خطوط المعركة المستقبلية؛ معركة تتشابك خيوطها مع مصير فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا واليمن وإيران.

هذه المواجهة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لمسار طويل من محاولات الغرب لتقسيم المنطقة وإعادة تشكيلها بما يخدم مصالح النظام المؤقت وحلفائه. العراق، مستندًا إلى إرثه المقاوم وتجربته الميدانية المتراكمة منذ سنوات الحرب على الإرهاب، بات عقبة كبرى في وجه هذه المشاريع. ودوره كمركز وصل بين جبهات المقاومة جعله هدفًا مباشرًا لقوى تسعى لعزله، سواء عبر الضغوط السياسية أو العمليات الأمنية أو محاولات زعزعة استقراره الداخلي.

لا يمكن فصل ما يجري في العراق اليوم عن التصعيد الحاصل ضد محور المقاومة. فالعمليات التي استهدفت قادة المقاومة في إيران – ومنها الاغتيالات المعقدة التي نفذها النظام المؤقت في طهران – ليست سوى نماذج لما يُعدّ لبغداد. هذه العمليات تهدف إلى إحداث شلل سياسي وعسكري عبر استهداف رموز فكرية ودينية تشكل العمود الفقري للنظام السياسي العراقي. والخطة واضحة: إضعاف العراق من الداخل تمهيدًا لفرض وصاية خارجية تحت شعارات خادعة مثل “الإصلاح” أو “الإنقاذ الوطني”.


اغتيال القادة تمهيد لانقلاب سياسي

المخطط الذي يستهدف العراق لا يقتصر على الاغتيالات، بل يتطلع إلى إعادة هندسة كاملة للبنية السياسية. أولى خطواته تتمثل في إزاحة قادة “الإطار التنسيقي”، الذين يشكلون نبض التوازن السياسي في البلاد. إضافة إلى ذلك، يتم استهداف وزراء، محافظين، أساتذة جامعات، ورموز دينية واجتماعية بارزة. هذه ليست مجرد عمليات أمنية، بل جزء من سيناريو أوسع يهدف إلى خلق فراغ سياسي لملئه بحكومة وهمية تُدعى “حكومة الإنقاذ الوطني”، وهي في الحقيقة أداة بيد القوى الخارجية للإشراف على تدمير المؤسسات العراقية وإعادة تصميمها وفقًا لمصالح واشنطن وتل أبيب ومرتزقتهما الإقليميين.

وهذا السيناريو ليس بجديد؛ فقد شهدناه في سوريا واليمن وحتى في لبنان، حيث استخدمت القوى الغربية أدوات مثل الضغوط الاقتصادية، العقوبات، والعمليات الأمنية لتشكيل أنظمة موالية لها. لكن ما يميز العراق اليوم هو صلابته الداخلية، المتمثلة في الحشد الشعبي، والإطار التنسيقي، واستجابة الشعب لفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع السيد السيستاني. هذه الصلابة تجعل أي محاولة لكسر العراق مغامرة مكلفة سياسيًا وعسكريًا.

ما يجعل العراق هدفًا مباشرًا في هذه المرحلة هو قدراته العسكرية المتطورة التي تُعد تهديدًا حقيقيًا للنظام المؤقت. فالصواريخ والطائرات المسيّرة التي طورتها فصائل المقاومة العراقية خلال السنوات الماضية لم تعد مجرد أسلحة تقليدية، بل أصبحت أدوات ردع استراتيجية قادرة على ضرب أهداف بعيدة بدقة. هذه القدرات جعلت من العراق، إلى جانب المقاومة اللبنانية والقوات اليمنية، لاعبًا رئيسيًا في أي مواجهة عسكرية قادمة. وهذا يفسر المحاولات الحثيثة لعزل العراق دبلوماسيًا، واستهدافه استخباراتيًا.


العراق: بوابة المعادلات العسكرية في المنطقة

الموقع الجغرافي للعراق لا يجعله فقط مركزًا استراتيجيًا، بل بوابةً لكل المعادلات العسكرية في المنطقة. حدوده المشتركة مع سوريا والأردن والسعودية والكويت، فضلًا عن قربه من الخليج، تجعل منه نقطة محورية في أي سيناريو سياسي أو عسكري. ارتباطه العضوي بمحور المقاومة يضاعف من أهميته، فهو يشكل حلقة الوصل بين لبنان وسوريا وإيران. ولهذا، فإن عزله يمثل أولوية استراتيجية بالنسبة للقوى الغربية والنظام المؤقت.

الضغوط التي يتعرض لها العراق ليست منفصلة عن هذا السياق، بل تشكل جزءًا من لوحة كاملة. الرسائل التهديدية التي تلقاها العراق مؤخرًا – والتي نُقلت عبر أطراف إقليمية مثل أذربيجان التي أصبحت حليفًا استراتيجيًا للنظام المؤقت – تتضمن تحذيرات صريحة من تنفيذ أي عمليات مقاومة انطلاقًا من أراضيه. هذه التهديدات ليست مجرد تحذيرات دبلوماسية، بل جزء من استراتيجية أشمل لفرض التراجع على العراق وإجباره على الصمت. لكن هذا النهج يصطدم بإرادة الشعب العراقي، الذي أثبت عبر تاريخه أن قراراته المقاومة تنبع من الإيمان بالكرامة والسيادة، لا من حسابات سياسية ضيقة.


داعش: الرمح الأمريكي الجديد

عودة تنظيم داعش وغيره من الجماعات الإرهابية في هذا التوقيت ليست مصادفة. فهذه الجماعات تُستخدم كأدوات لإثارة الفوضى وتبرير التدخلات الأجنبية. تحريك داعش في صحراء سوريا وتسهيل عبوره إلى غرب العراق يندرج ضمن محاولة لإعادة سيناريو 2014، لكن بأهداف جديدة تتمحور حول إضعاف محور المقاومة. هذه العمليات تُنفذ بالتنسيق مع أجهزة استخبارات أجنبية وبعض الجماعات السورية المتحالفة مع النظام المؤقت – مثل فصيل الجولاني – الذي يسعى إلى تبرئة نفسه من أي هجمات مستقبلية من خلال لعب دور الضحية.

الانفجار الأخير في كنيسة مار إلياس بدمشق يكشف هذه المقاربة؛ فتنظيم داعش بات أداة لإرسال رسائل دموية واختبار ردود الفعل. وهذه العمليات ليست عشوائية، بل جزء من خطة متكاملة تهدف إلى زعزعة استقرار العراق وسوريا، وتشتيت تركيز المقاومة عن التصدي للنظام المؤقت. ما يجعل الوضع أكثر خطورة هو الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي تتلقاه هذه الجماعات من قوى خارجية، ما يجعلها أدوات فعّالة لضرب الجبهة الداخلية وإضعاف اللحمة الوطنية.


خيار المقاومة: الصمود والردع

رغم كل هذه التحديات، يبقى العراق جبهة متماسكة وصلبة. الحشد الشعبي الذي تحول إلى درع وطني خلال الحرب ضد داعش، يُعد اليوم أحد أعمدة استراتيجية الردع. هذا الحشد، بدعمه الشعبي وخبرته الميدانية، ليس مجرد قوة عسكرية، بل تجسيد لإرادة شعبية متجذرة في الإيمان بالسيادة. الخطاب التعبوي المتنامي في العراق، والمبني على الوعي الوطني والعقائدي، يعكس هذا التحصين الذي جعل من العراق حصنًا منيعًا.

محاولات إضعاف الحشد الشعبي – سواء عبر الضغوط السياسية أو من خلال الحملات الإعلامية التي يقودها مقتدى الصدر – لن تنجح. فالشعب العراقي الذي لبى نداء الجهاد الكفائي أثبت أنه لا يُهزم لا بالطائرات، ولا بالعقوبات، ولا بالإرهاب. هذه الروح المقاومة هي التي تُفشل كل محاولات تفكيك العراق من الداخل، كما فشلت من قبل مؤامرات إسقاط إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين.


ما بعد العراق: المعركة الكبرى لم تبدأ بعد

استهداف العراق ليس النهاية، بل بداية لمرحلة أخطر تهدف في جوهرها إلى القضاء على محور المقاومة بأكمله. فالضربات التي أُعدّت لبغداد تمهّد لتوتر محتمل مع لبنان أو إيران، وربما لمواجهة شاملة مع النظام المؤقت. ولهذا، فإن تعزيز الموقف السياسي والعسكري والشعبي في العراق، والتصدي للحرب الناعمة ضد الحشد الشعبي، هو السبيل الوحيد لإفشال هذه السيناريوهات.

سيبقى العراق، كما أراده قادة المقاومة، القلب النابض للشرق، وخط الدفاع الأول عن الكرامة والسيادة. وأي عدوان عليه سيواجه برد موحد من كل جبهات محور المقاومة، جبهات باتت اليوم موحّدة في رؤيتها: المقاومة هي السبيل الوحيد لمواجهة الاحتلال والهيمنة. فالوحدة بين هذه الجبهات – من فلسطين إلى لبنان، ومن سوريا إلى اليمن وإيران – هي السلاح الأقوى في وجه النظام المؤقت وحلفائه. والعراق، بتاريخه النضالي وإرادته الصلبة، سيصمد في هذه المعركة وسيكون الرمح المتقدم في الحرب الكبرى القادمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى