القسم السياسي

إيران بعد الحرب: من الصلابة إلى التحدّي الداخلي

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

إيران اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم ومصيري، حيث انفتحت أمامها آفاق استراتيجية واسعة بعد معركة استمرت 12 يوماً شكّلت نقطة تحوّل محورية في ميزان القوى والردع في مواجهة الكيان الصهيوني. هذه المواجهة غير المسبوقة أعادت تعريف الدور الإقليمي لإيران وقدراتها العسكرية والسياسية، وفرضت واقعاً جديداً في الوعي الإقليمي والدولي.

وسط التحليلات والنقاشات حول مرحلة “ما بعد الحرب”، برزت رؤيتان متمايزتان:

🔹 الرؤية الأولى ترى أن إيران خرجت من هذه المعركة أقوى من أي وقت مضى، وأنها غيّرت قواعد اللعبة عبر انتصارات ميدانية ومعنوية.

🔹 أما الرؤية الثانية، فتحذّر من عودة إيران إلى وضع ما قبل الحرب، حيث الانقسامات الداخلية والتحديات السياسية والاقتصادية تعود لتطفو على السطح.

✳️ هذه الورقة تدعم بقوة الرؤية الأولى، وتؤكّد أن إيران تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من النفوذ والصمود، لكنها في الوقت ذاته تحذّر من مخاطر الرؤية الثانية التي قد تقوّض المكاسب الكبرى التي تحققت في الحرب، إذا ما سُمِح لها بالتغلغل إلى الوعي الجمعي.


✅ أولاً: إيران اليوم أقوى من قبل الحرب… وهذه هي دلائل القوة:

1. قوة عسكرية متزايدة:

  • سلاح الردع الصاروخي: عملية “الوعد الصادق 3” لم تكن مجرد استعراض للقوة، بل ساحة اختبار حقيقي لصواريخ إيران الباليستية والدقيقة التي أصابت أهدافها بدقة أربكت الحسابات العسكرية للعدو، وأظهرت هشاشة منظوماته الدفاعية، لا سيما في استهداف قواعد عسكرية حساسة داخل يافا المحتلة.
  • الدفاع الجوي: منظومات الدفاع الإيرانية مثل “باور 373” أثبتت فعاليتها في التصدي لهجمات معقدة بطائرات مسيّرة وصواريخ كروز مدعومة من الغرب.
  • تناغم محور المقاومة: تنسيق غير مسبوق بين أطراف المحور من غزة إلى لبنان والعراق واليمن، عزّز من صورة إيران كقائدة لجبهة موحّدة. هجمات أنصار الله على السفن المرتبطة بالكيان في البحر الأحمر، وتحركات حزب الله الدقيقة على الحدود، شكّلت امتداداً عملياً للدور الإيراني.

2. قوة نفسية ومعنوية:

  • إيران كسرت عقدة “الخوف من المواجهة المباشرة” التي سيطرت على العالم الإسلامي لعقود، منذ نكسة الجيوش العربية في 1948 و1967. الضربات الإيرانية المباشرة على أهداف استراتيجية في العمق الصهيوني بعثت رسالة قوية: إيران لا تتردّد في الدفاع عن سيادتها.
  • مظاهرات التأييد الشعبي في طهران وأصفهان وقم أظهرت تلاحماً وطنياً نادراً، وتجسّدت الروح المعنوية في شعارات مثل “الموت للكيان الصهيوني”، والتي تعكس استعداداً شعبياً للتضحية.
  • حتى الولايات المتحدة تلقّت الرسالة، بعد عجزها عن حماية قواعدها أو ردع إيران عن استهداف قاعدة “العديد”.

3. قوة سياسية وإقليمية:

  • تناغم استراتيجي بين إيران وحلفائها، خصوصاً حزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي، عزّز موقع إيران كقائدة لمحور المقاومة.
  • إيران انتقلت من الدفاع إلى المبادرة؛ لم تعد تُدار ضدها حروب بالوكالة فقط، بل باتت هي من يرسم إيقاع المواجهة ويرد مباشرة على الاعتداءات.
  • داخلياً، شهدت البلاد لحظة نادرة من الوحدة الوطنية، حيث توحّدت النخب السياسية رغم الخلافات الأيديولوجية حول القيادة في مواجهة التهديد الخارجي.

⚠️ ثانياً: التحذير من وهم “العودة إلى ما قبل الحرب”:

✖️ 1. تطبيع الانقسامات:

من الطبيعي أن تُطرح نقاشات حول إدارة المرحلة المقبلة، لكن تحويلها إلى صراعات علنية يُضعف الجبهة الداخلية. خطابات تُشكّك في جدوى المواجهة العسكرية أو تُحمّل القيادة مسؤولية الأضرار الاقتصادية يمكن أن تُذكي نيران الفتنة.

❗ تجربة لبنان عام 2006 تُحذّرنا: فشلت محاولات إشعال الفتنة بفضل تماسك حزب الله والشعب. اليوم، يحاول البعض استغلال الأزمة الاقتصادية لإضعاف معنويات الشعب الإيراني.


✖️ 2. استعجال تفكيك الجبهة الموحدة:

الكيان الصهيوني لم يُهزم كلياً؛ بل يعيد تنظيم نفسه عبر الحرب النفسية والإعلامية. بدأت وسائل الإعلام الغربية والصهيونية تروّج لروايات تُقلّل من أهمية الرد الإيراني وتركّز على “التكلفة الاقتصادية” لتشويه صورة النصر.

أي انقسام داخلي الآن يمنح العدو فرصة للعودة إلى المبادرة. كما فعل بعد حرب أكتوبر 1973، حين استغل الانقسامات لفرض اتفاق كامب ديفيد وإخراج مصر من المعادلة.

❗ الحرب لم تنتهِ، بل دخلت مرحلة جديدة: حرب استنزاف إعلامي ونفسي، هدفها ضرب الثقة الشعبية والقيادية.


🛑 الخطر الحقيقي: نسيان الإنجازات!

أولئك الذين يروّجون لفكرة “العودة إلى ما قبل الحرب” يتجاهلون حقائق مفصلية:

  • الدماء التي سُفكت رسمت معادلة ردع جديدة. نعم، كانت هناك خسائر، لكنها جاءت مقابل تثبيت قواعد اشتباك جديدة أربكت العدو.
  • الرد الإيراني غير المسبوق على الكيان الصهيوني أظهر أن إيران ليست فقط في موقع الدفاع، بل قادرة على الهجوم وتغيير المعادلات.
  • صمود الشعب الإيراني رغم الحصار والمعاناة الاقتصادية، بيّن أن الإرادة الشعبية ما زالت حيّة ومتمسّكة بالثوابت.

ما تحقق ليس لحظة عابرة، بل بداية مرحلة جديدة يمكن أن تُعيد رسم مستقبل المنطقة، بشرط الحفاظ عليها.


📖 تحذير قرآني:

“هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ”
العدو الحقيقي لا يأتي دوماً بوجهٍ عسكري واضح؛ بل أحياناً عبر الشكوك، واليأس، والخطابات التي تُضعف الروح.
الكيان الصهيوني، بدعم من الغرب، يُراهن اليوم على التسلل إلى الداخل عبر روايات تُضعف من قيمة الانتصار، وتُبرز التحديات لتأليب الرأي العام.


✊ إيران لا تتراجع… بل على أعتاب قفزة تاريخية:

المسؤولية الآن تقع على عاتق الجميع في إيران – من القيادات إلى الشعب – للحفاظ على منجزات المعركة. الوحدة الوطنية التي تجسّدت خلال 12 يوماً يجب أن تكون أساس المرحلة القادمة.

النقاش حول المستقبل ضروري، لكن يجب أن يكون ضمن إطار الوحدة، لا في سياق تصفية حسابات أو إعادة إنتاج خلافات قديمة.

❗ الخطر ليس في التحديات الاقتصادية أو السياسية، بل في نسيان ما تحقق.
❗ العودة إلى الوراء لن تأتي من الخارج، بل من الداخل، إن نحن فقدنا البوصلة.

إيران، بقوتها العسكرية، وشعبها الموحد، ونفوذها الإقليمي، تقف اليوم على عتبة تاريخية يمكن أن تُغيّر وجه المنطقة… فقط إذا حمت وحدتها وصانت نصرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى