القسم السياسي

الجولاني وهرتسل: مشروع واحد بأقنعة مختلفة.

كلما رأيت من يدعو إلى حلّ فصائل المقاومة الفلسطينية، وتجريد أنصار الله من سلاحهم، وإنهاء قدرات حزب الله، وتفكيك الحشد الشعبي والفصائل العراقية، وفي الوقت نفسه يُجمّل صورة الجولاني، فلا حاجة حينها إلى كثير من التدقيق والتمحيص. إنها وجه آخر للمشروع ذاته الذي بدأ مع هرتسل… الفكرة واحدة، والأقنعة فقط تتبدل؛ والموضوع هو: فلسطين.

مشروع الصهيونية لا ينتهي بالتفكيك… بل يبدأ منه

توترات الجنوب السوري ليست نهاية الحكاية، بل بداية لمسار جديد. ليست تمرداً مؤقتاً، ولا فوضى تسبق اتفاقاً ما، بل خطوة مدروسة في إطار مشروع قديم باسم جديد: “ممر داوود”.

حلم تيودور هرتسل، ومن يقفون خلف المشروع الصهيوني عالمياً، لم يكن مجرد إقامة دولة على شاطئ المتوسط. لم يكن الهدف “إسرائيل” بحدودها المصطنعة الحالية؛ بل “إسرائيل الكبرى”، من النيل إلى الفرات، على أنقاض دول عربية منهارة، وسط شعوب ممزقة غارقة في الصراعات الطائفية والاقتتال الداخلي.

كتب هرتسل في مذكراته ما تجاوز حدود الخيال السياسي: اعتبر سوريا والعراق وحتى الحجاز جزءاً من مجالات النفوذ المحتملة للمشروع الصهيوني، بشرط أن يُمهد لذلك من خلال مسارين:

  1. تفكيك الهويات الدينية والقومية للشعوب
  2. نزع سلاح الأمة المقاومة، عبر خلق كيانات بديلة لا تعادي الكيان، بل تعتبر إيران وحزب الله وأنصار الله والحشد الشعبي “أعداء” يجب استهدافهم.

اليوم نشهد تجسيداً عملياً لهذا المشروع:

• من الجولان إلى السويداء
• من السويداء إلى دير الزور
• من شرق الفرات إلى كركوك…

تُعاد رسم الخرائط على أساس حلم هرتسل؛ لكن هذه المرة، ليس تحت شعار “مواجهة الصهيونية”، بل بذريعة “العداء لإيران”.

الجولاني… وظيفة لا شخصية

في هذا الميدان، لا يمكن النظر إلى الجولاني كمجرد فصيل إرهابي. إنه أداة هندسة الوعي الجماهيري لإعادة تعريف العدو في أذهان الشعوب. يقتل في السويداء، ويحارب كل مقاومة، لكنه يُقدَّم إعلامياً بلغة “الوطنية” و”الحرية”. فيما القائمون على تحريكه من خلف الستار، يفتحون “الممر الصهيوني” من الجولان إلى شرق سوريا.

ما هي المهام الرئيسية له؟

  • تقديم إيران كعدو ديني
  • الترويج لحزب الله كتهديد داخلي
  • تضخيم دور الحشد الشعبي كقوة عابرة للحدود
  • والأهم من ذلك: تحويل بوصلة الوعي بعيدًا عن النظام الصهيوني

في هذه المرحلة، تدخلت الشبكات الطائفية العربية من الرياض إلى الدوحة، أنقرة، أربيل وبغداد في المعركة؛ واستعانوا بالمرتزقة الفكريين والدينيين لترويج هذا الخطاب، ونسوا أن الجولاني في عنفه ضد المدنيين الدرزيين كان أكثر وحشية حتى من آلة الحرب الصهيونية في غزة.

مشروع داوود: عندما يتحول الطريق إلى خنجر في قلب المقاومة

“ممر داوود” ظاهريًا هو طريق لوجستي بين أجزاء من سوريا وفلسطين، لكنه في الواقع خطة لربط الجنوب الدرزي بشرق الفرات الكردي، بهدف إنشاء طوق يحيط بدمشق ويقطع اتصالها بمحور المقاومة، خصوصًا إيران ولبنان.

هذا المشروع له جذور عميقة، مزروع في الأفكار الجيوسياسية للصهيونية قبل قيام الكيان. هرتسل كان يحمل في ذهنه خريطة لا تكتفي بفلسطين فقط، بل ترى سوريا والعراق وحتى الخليج العربي في ميدان ابتلاع “إسرائيل الكبرى”.

لكن واجهتهم مشكلة كبيرة: لم يربوا أدواتهم العقائدية بشكل صحيح.

  • لم يخبروا الجيل التكفيري أن العدو الحقيقي هو النظام الصهيوني.
  • زرعوا في ذهنه أن العدو هو الشيعة.
  • والنتيجة؟ الوحش الذي صنعوه خرج عن السيطرة ولم يعد من السهل ضبطه.

حتى أن كثيرًا من قواتهم المستأجرة، بدلاً من تنفيذ الخطط الصهيونية، توجهت لمواجهة النظام مباشرة في الجولان؛ لأن لديهم عداءً عامًا ضد أي معارض، حتى ضد “إسرائيل”!

النار التي أشعلوها ستلتهمهم هم أنفسهم.

في لحظات الهزيمة، لا يلجأ الصهاينة إلى مراجعة خططهم؛ بل يضحون بأدواتهم المستهلكة.

وهذا هو المصير المنتظر لكل من تركيا والسعودية؛ الدول التي ظنت أنها ستكسب نفوذاً استراتيجياً بدعمها الجماعات المسلحة في سوريا. ولكن ماذا كانت النتيجة؟

  • فقدت أدواتهم السيطرة،
  • الجنوب السوري على وشك الانفجار،
  • والجولاني، على الأقل ظاهرياً، لم يعد تابعاً.

مع انهيار هذه الأدوات، يبحث المشروع الصهيوني عن بدائل: حروب قبلية، انفجارات محلية، تأجيج التعصبات الدينية والطائفية.

وهذا التهديد ليس محصوراً بسوريا فقط؛ بل خطر شامل يشمل جميع اللاعبين في هذا المشروع من أنقرة إلى الرياض.

المعادلة واضحة:

طالما لم تسقط إيران، يجب أن ينفجر الجبهة الداخلية للدول التي سهّلت هذا المشروع.

وهذا ما بدأ فعلاً.

“إسرائيل الكبرى” ليست في فلسطين التاريخية… بل تُدار من نيويورك.

حان الوقت الآن لإعادة تعريف المفاهيم:

النضال ليس فقط ضد “إسرائيل الصغيرة”؛ بل ضد نظام استعمار عالمي.

🔴 الكيان الصهيوني ليس سوى قاعدة عسكرية؛

أما غرفة القيادة فهي في:

  • واشنطن (القرارات السياسية والعسكرية)
  • لندن (الإعلام والأمن الناعم)
  • باريس (الهندسة الثقافية والسياسية)
  • نيويورك (البنوك واللوبيات)

هذا هو الصهيونية الحقيقية؛ المشروع الذي منذ 46 عاماً، منذ انتصار الثورة الإسلامية، يسعى إلى تدمير إيران.

لأنهم يعلمون أن إيران لا تقتصر على حدود جغرافية لدولة فقط، بل هي مشروع مقاومة، تنفّسها طويل ودعمها شعبي وعسكري وعقائدي يمتد من أفغانستان حتى سواحل فلسطين.

إيران كسرت القالب؛
وأفشلت الشرق الأوسط الجديد؛
وأعادت تعريف العدو.

لذلك، هي الهدف الأول لكل الخطط التي تُشن باسم الحرب الناعمة، أو الاغتيال، أو “التصفية” و”الإصلاح”.

وفي الختام…

ما يجري اليوم في جنوب سوريا ليس حدثاً محلياً أو نزاعاً دينياً محدوداً، بل هو امتداد مباشر لمعركة وجودية بين مشروعين كبيرين؛ معركة تحدد مصير المنطقة ومستقبلها:

  • من جهة، مشروع يرتكز على المقاومة والاستقلال،
  • ومن جهة أخرى، مشروع يسعى لإعادة هندسة الشرق الأوسط لصالح مصالح الكيان الصهيوني وداعميه الغربيين.
  • مشروع الصهيونية الذي بدأ مع هرتسل واستمر في غرف الظل الغربية،
  • ومشروع المقاومة الممتد من قم إلى غزة، ومن الضاحية إلى بغداد.

وفي وسط هذين المشروعين… تسقط الأقنعة.

الجولاني لم يعد عدواً وجهاً لوجه؛ بل أصبح ورقة محترقة لا دور لها سوى خدمة السيناريوهات الخفية والمشاريع الأكبر.

والكيان الصهيوني ليس جيشاً عادياً؛ إنه نظام منظّم لهدم الأرض والعقل والهوية بشكل شامل.

والسؤال:

هل نواجه فقط “إسرائيل الصغيرة” في فلسطين التاريخية؟
أم يجب أن نحاصر “إسرائيل الكبرى” في واشنطن قبل أن تغلق الخنق حول أعناقنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى