القسم السياسي

نُفوذُ جِهازِ الاِسْتِخْباراتِ البِريطانيّة في الحُكومةِ “القاعِدِيّة” في سوريا

في 19 تموز/يوليو، كشفت صحيفة Mail on Sunday أن شركة غامضة تُدعى “Inter-Mediate”، أسّسها جوناثان باول، مستشار الأمن القومي لرئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر، قد لعبت دور الوسيط في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ولندن. كما نظّمت هذه الشركة لقاءً بارزاً بين وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي وأحمد الشرع، الذي يقدّم نفسه كزعيم لسوريا.

وأفادت الصحيفة أيضاً أن الشركة، المموّلة مباشرة من الحكومة البريطانية، تمتلك مكتباً خاصاً داخل قصر الرئاسة السورية.

وطالبت المعارضة البريطانية (حزب المحافظين) بفتح تحقيق رسمي في هذا التضارب الصارخ في المصالح، متهمةً باول باستخدام شركته كقناة سرّية للتواصل مع جماعات إرهابية. وبما أن منصبه غير وزاري، فإنه لا يخضع للمساءلة البرلمانية، رغم ما يُقال عن تمتّعه بنفوذ يفوق نفوذ أي مسؤول حكومي آخر بعد رئيس الوزراء.

أحد المصادر الحكومية وصف شركة Inter-Mediate للصحيفة بالقول:
«هؤلاء في الأساس جواسيس ووكلاء تم التعاقد معهم من الخارج، يعملون على تحقيق صفقات من خلال محادثات سرية مع قادة سياسيين ومسلحين».

دور بريطانيا في صعود “هيئة تحرير الشام”

في شهر أيار/مايو، كشفت صحيفة إندبندنت عربية لأول مرة أن شركة Inter-Mediate لعبت دوراً محورياً في تمكين “هيئة تحرير الشام” (HTS) من السيطرة على دمشق. وجاء هذا الكشف بعد تصريحات من السفير الأمريكي السابق لدى سوريا، روبرت فورد، الذي قال إن “منظمة غير حكومية بريطانية” طلبت منه عام 2023 المساعدة في تحويل HTS – وخاصة أحمد الشرع (المعروف بـ أبو محمد الجولاني) – من “إرهابي” إلى “سياسي”.

ورغم أن فورد لم يُسمّ المنظمة، إلا أن إندبندنت عربية أكدت أن المقصود هو شركة Inter-Mediate نفسها. وقد تجاهلت وسائل الإعلام الغربية الرئيسية هذا الكشف بالكامل.

ومع تأكيد وجود مكتب للشركة داخل القصر الرئاسي السوري، بدأت بعض وسائل الإعلام بوصف الحكومة السورية الجديدة بأنها “تحالف من المتطرفين الوحشيين” المرتبطين بتنظيم القاعدة وداعش، لكن دون التطرّق إلى تبعات وجود شركة مرتبطة بـ MI6 داخل نواة السلطة في سوريا.

صعود الشرع وتوقيت تعيين باول المشبوه

اللافت أن تعيين باول كمستشار للأمن القومي لرئيس الوزراء البريطاني جاء بعد أيام فقط من استيلاء HTS العنيف على دمشق. وبعد هذا الحدث مباشرة، أعلن رئيس الوزراء البريطاني أن سقوط بشار الأسد يمثل “فرصة لبريطانيا للعب دور أكثر فاعلية في غرب آسيا”، وأرسل دبلوماسيين رفيعي المستوى للقاء ممثلين عن HTS في دمشق.

وقد أكدت وسائل إعلام بريطانية أن هذه اللقاءات كانت غير قانونية تماماً، لأن HTS مصنّفة كمنظمة إرهابية بموجب القانون البريطاني.

منذ استلامه للسلطة، أعلن أحمد الشرع أن الاقتصاد السوري أصبح بالكامل تحت رحمة الغرب، وارتكب مجازر بحق العلويين والأقليات الدينية الأخرى، في وقت يسعى فيه لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.

ورغم أن الكيان الصهيوني قصف بشكل منتظم منشآت حكومية وعسكرية داخل سوريا منذ سقوط الأسد، إلا أن HTS لم تُبدِ أي رد فعل. وقد دفع هذا الصمت بعض المحللين إلى التساؤل: هل القمع الدموي الداخلي والتواطؤ مع اعتداءات تل أبيب يُداران مباشرةً من قِبَل جهاز MI6 البريطاني؟

الجواسيس الناعمون والمقنّعون

لا يُذكر على الموقع الرسمي لشركة Inter-Mediate أي ارتباط مباشر بجهاز الاستخبارات البريطاني MI6، سوى أن أعضاء مجلس إدارتها وموظفيها هم دبلوماسيون وعسكريون سابقون من الغرب. وتفخر الشركة بأن من بين مجالات عملها «إنشاء قنوات سرية مع الفاعلين المنخرطين في الأزمات»، خصوصًا في المناطق التي تكون فيها المفاوضات المباشرة غير ممكنة أو غير حكيمة.

لكن علاقة هذه الشركة بالأزمة السورية تعود إلى سنوات طويلة. ووفقًا لرسائل بريد إلكتروني مسرّبة من وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، فإن Inter-Mediate كانت نشطة في دمشق منذ بداية الأزمة السورية.

في مارس/آذار 2012، كتب جيك سوليفان، مستشار كلينتون، في رسالة إليها أن باول «أنشأ منظمة غير حكومية جديدة بدأت أنشطتها السرية بطريقة مثيرة للاهتمام». وفي الرسالة المرفقة، ذكر باول أن شركته «أنشأت قنوات سرية بين المتمردين والحكومات في عدة دول»، وأنها كانت تستعد للعمل في بورما، الصومال، سوريا واليمن، وتسعى لعرض خدماتها على وزارة الخارجية الأمريكية.

كما أكد باول في رسالته أن شركته «تعمل عن كثب مع وزارة الخارجية البريطانية، مجلس الأمن القومي، وجهاز MI6». وكان من الواضح في ذلك الوقت، بحسب واشنطن، أن المتمردين السوريين لديهم صلات مع القاعدة وجماعات متطرفة أخرى.

تُظهر هذه التسريبات أن علاقة Inter-Mediate مع عناصر من هيئة تحرير الشام (HTS) تعود لأكثر من عقد، وأن خطة لندن لتمكينهم من السلطة بدأت قبل وقت طويل من تواصل باول مع روبرت فورد عام 2023. ويبدو أن افتتاح مكتب للشركة داخل القصر الرئاسي السوري كان مشروعًا مُخططًا له منذ سنوات.


تغلغل خفي في لبنان وأماكن أخرى

ليست هذه المرة الأولى التي تتسلل فيها بريطانيا إلى الهياكل الأمنية في المنطقة. فقد كشف هذا الصحفي سابقًا أن البنية الأمنية في لبنان مخترقة بشدة من قبل بريطانيا، حتى أن شركة الاستخبارات Torchlight تمتلك مكتبًا خاصًا داخل مديرية الاستخبارات العسكرية في الجيش اللبناني.

وتُظهر الوثائق المسرّبة أن وجود Torchlight ساهم بسرعة في بناء «علاقات ثقة» مع كبار القادة، وأن هؤلاء «من المرجّح ألا يرفضوا تدخلًا بريطانيًا إضافيًا».

كما تفيد وثائق أخرى أن “مؤسسة ويستمنستر للديمقراطية” (WFD) – النسخة البريطانية لـ “الصندوق الوطني للديمقراطية” التابع للـ CIA – لها مكاتب داخل مبنى البرلمان اللبناني. وتشير تقارير رسمية إلى:

«الهدف الأساسي من WFD هو تنفيذ مشاريع خارجية مثيرة للجدل لا تستطيع أو لا ترغب الحكومة البريطانية في تنفيذها مباشرة، مما يساعد في الحفاظ على العلاقات الرسمية بين الحكومات ويقلل من خطر اتهامات بالتدخل الأجنبي».

«العلاقة غير المباشرة بين المؤسسة والحكومة هي درع دفاعي مثالي لوزارة الخارجية… فكلما قلّ الإشراف الرسمي، زادت سهولة التنصل من المسؤولية.»


عودة التدخل الليبرالي بوجه القاعدة

في الافتتاحية المرافقة لتقرير Mail on Sunday، كُتب أن باول هو أحد الشخصيات النافذة في حكومة ستارمر ممن كانوا في ذروة السلطة خلال عهد توني بلير. ويضم هذا الفريق أيضًا بيتر ماندلسون – السفير البريطاني الحالي في واشنطن – ويُقال إنهما يشكلان القوة الحقيقية للسياسة الخارجية البريطانية، في حين أن وزير الخارجية لامي يؤدي دورًا شكليًا ضمن سيناريو مكتوب مسبقًا من قبلهما.

ويقال إن باول وماندلسون يمتلكان شبكات خاصة قوية يمكن تنشيطها لتوجيه سياسة بريطانيا الخارجية. إلا أن بعض المسؤولين في داونينغ ستريت (مقر رئاسة الحكومة البريطانية) باتوا يشعرون بالقلق من نفوذ “البليريين الناعمين والأنيقين”، وطرحت الافتتاحية السؤال التالي:

«متى يتحوّل ’الخبرة والإرشاد‘ إلى ’تحكم وهيمنة‘؟»

والآن، يجب طرح السؤال ذاته حول علاقة Inter-Mediate بهيئة تحرير الشام وحكومتها المحتملة في سوريا: هل يتابع باول بموقعه الرسمي وشركته الخاصة تنفيذ مشروع صديقه توني بلير القديم – أي إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقًا للمصالح البريطانية؟

كمثال، فإن “مؤسسة بلير للتغيير العالمي” طالما دعت إلى الثورة في إيران، وعبّرت بوضوح عن نيتها تأسيس شبكات معارضة للحكومات في المنطقة.


من العراق إلى سوريا: سيناريو يتكرر

في سبتمبر/أيلول 2002، ضخّم باول تقريرًا عن قدرات العراق في الأسلحة الكيميائية والبيولوجية – أعدته اللجنة الاستخباراتية البريطانية المشتركة – مما مهد الطريق لغزو العراق من قبل أمريكا وبريطانيا في مارس/آذار 2003.

وقد اعترف باول لاحقًا بأن التقرير «يعاني من خلل»، لأنه لم يصوّر العراق كخطر وشيك، ولهذا طلب تغيير لهجته لتؤثر بفاعلية أكبر على الإعلام والرأي العام.

الملفات الشخصية الحديثة عن باول تُظهر أنه لا يزال مخلصًا لمشروع بلير المشتعل:

«تُظهر الوثائق التاريخية أن باول لم يكن مقتنعًا بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، لكنه اعتقد أن صدام يجب أن يُزال لأنه كان ديكتاتورًا وحشيًا… هذه هي ’الليبرالية التدخلية‘ التي كان بلير يدافع عنها: تدخل الغرب النشط في أزمات الآخرين. ولا يزال باول يعتنق هذا المبدأ. حتى بعد العراق وأفغانستان، لا يزال يريد إنقاذ العالم.»

وإذا كان مستشار الأمن القومي لستارمر هو فعلاً من يرسم السياسة الخارجية البريطانية من خلال Inter-Mediate، فإن بريطانيا لم تعد تتدخل فقط في شؤون غرب آسيا، بل تديرها مباشرة من خلال وكلاء.

وإذا كان وكيل القاعدة المخلص في دمشق هو الوجه الجديد للتدخل الليبرالي البريطاني، فإن مكتب الاستعمار البريطاني لم يُفتح من جديد… لأنه في الحقيقة لم يُغلق قط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى