مقالات الرأي

بعد النار والحديد: هل تغيّرت قواعد الحرب؟

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

لقد شكّلت الهجمة المباشرة على إيران من قبل الكيان الصهيوني، وبمشاركة علنية أو سرّية من الولايات المتحدة الأميركية، منعطفاً استراتيجياً في مسار النزاعات الإقليمية. عمليةٌ عسكريةٌ استمرت اثني عشر يوماً، لم تكن مجرّد عدوان تكنولوجي على أهداف داخل الأراضي الإيرانية، بل كانت محاولة ممنهجة لاختبار المزاج النفسي للشعب الإيراني، ومعرفة مدى صبر الجمهورية الإسلامية، وقياس حدود ردّها، وإعادة رسم خطوط الاشتباك، في وقتٍ كانت فيه هيبة الردع الصهيوني تنهار، ومكانة أمريكا العالمية تتآكل.

جاء هذا العدوان في ظروفٍ إقليمية مضطربة: مقاومة فلسطينية شرسة منذ 7 أكتوبر 2023 أحرجت الكيان الصهيوني، تصاعد التوتر في الجبهة الشمالية مع لبنان، تقدّم محور المقاومة في اليمن، انسحاب تكتيكي في سوريا، صمت في العراق، وتكثيف الحرب المركّبة ضد إيران على المستويات السياسية والاقتصادية والنفسية. لذا، فإنّ قرار ضرب إيران لم يكن إلا خياراً يائساً من محور الأعداء، لعلّه يُبطئ من وتيرة صحوة الشعوب، ويستعيد شيئاً من توازن الرعب المفقود.

لكن حسابات غرفة العمليات الصهيونية–الأميركية لم تكن دقيقة. فطهران لم تلتزم الصمت، ولم تبِع دماء أبنائها على طاولات المساومة. بل ردّت بضربة دقيقة ومحسوبة على أهداف استراتيجية في عمق الأراضي المحتلة، وبمنظومة تنسيق عسكري وإلكتروني متقدمة، ورسائل واضحة، لتُعلن أنّ زمن التهديدات الأحادية قد انتهى، وأنّ كلّ يد تمتدّ إلى سيادة إيران، ستُقطع من منبعها.

شهد العالم ولادة فصلٍ جديد في تاريخ المقاومة: إيران لم تعد فقط داعماً لمحور المقاومة، بل أصبحت فاعلاً مباشراً ومؤثّراً في معادلة الردع. اثنا عشر يوماً من التهديد، الحرب النفسية، الضربات المتبادلة، والمقامرات المكشوفة، كانت كافية لكشف هشاشة المشروع الصهيوني–الأميركي، وعجز أدواته التقليدية في الإعلام والحرب النفسية والمواجهة العسكرية.

في المقابل، أظهرت الجمهورية الإسلامية انسجاماً نادراً بين القرار السياسي، والإرادة العسكرية، والحكمة الإعلامية. تحرّكت بدقّة، واختارت أهدافها بذكاء، واحتفظت بحقّ الرد في الوقت والمكان المناسبين، مما أربك العدو وتركه في حالة من الضياع المستمر. إلى درجة أنّ “إسرائيل” نفسها – باعتراف مسؤوليها – باتت تخشى المواجهة المباشرة مع إيران، وتبحث عن مظلّة أميركية تحميها من الردود المستقبلية.

لكن أهمية هذه الواقعة لا تقتصر على الميدان العسكري فحسب. فهذه الحرب العدوانية، رغم قصر مدتها، فتحت ملفات مصيرية سترسم مستقبل المنطقة: خريطة التحالفات الإقليمية الجديدة، استخدام أجواء دول الجوار في استهداف إيران، صمت بعض العواصم العربية، تشويه صورة المقاومة في الإعلام الغربي، والمعايير المزدوجة للمؤسسات الدولية.

من هنا، نرى في هذا العدد الخاص من مجلة كنز السماء، أنه ليس مجرّد استعراض لما حدث، بل هو محاولة لتثبيت سرديتنا نحن – تلك السردية التي يُراد تغييبها عمداً عن منصات الإعلام الدولي. لقد آن الأوان لنقول للعالم، وبصوت عالٍ: المعركة لم تعد بين “الكيان الصهيوني” والشعب الفلسطيني فقط، بل باتت صراعاً واسعاً بين منظومة عقائدية مقاومة، ومحور صهيوني–غربي يسعى لإخضاع المنطقة بالنار، والكذب، والحصار.

الصفحات القادمة هي محاولة لفهم أعمق لهذه الحرب: من أين بدأت؟ ماذا حقّقت؟ ما هي رسائلها الخفيّة؟ وكيف سيكون شكل العالم بعد كلّ صاروخ وقذيفة وبيان؟
إنه عدد لا يكتفي بتوثيق معركة، بل يرسم طريقاً لفهمها واستشراف ما بعدها.

نحن نؤمن أنّه بعد اثني عشر يوماً من المواجهة، لن يكون شيء كما كان من قبل.
لقد كتبت إيران – بشهدائها، وصبرها، وردّها – سطراً جديداً في سجلّ هذه المعركة، عنوانه الواضح:

شعبنا لا يُضرَب بلا رد، وصوتنا لن يُمحى من ذاكرة التاريخ…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى