مقالات الرأي

المحور الأول: اليمن المقاوم؛ من الانتفاضة إلى ترسيخ السيادة الثورية

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

في عمق الجغرافيا العربية، على حدود البحر الأحمر وباب المندب، تقع صنعاء بخصوصياتها التاريخية التي لم تفقد يوماً بوصلة القدس ولم تخن عهد الإسلام الأول. اليمن الذي اعتنق الإسلام طوعاً في أول جمعة من شهر رجب، لم يكن يوماً تابعاً للإرادات الخارجية أو خاضعاً لإملاءات المحاور الدولية. ومنذ اللحظة التي أعلن فيها أنصار الله شعارهم الثابت «الموت لأمريكا»، ارتسمت معالم مشروع ثوري مستقل امتد من صعدة حتى سواحل البحر الأحمر، وتعامل مع قضايا الأمة من موقع الفعل لا التبعية. هذا المشروع الذي ترسخ عبر عقود من المواجهة والصمود لم يكن وليد لحظة عابرة، بل ثمرة تراكمات ثورية متواصلة.

جذور النهضة: حين تنفس الجنوب نفساً ثورياً

وُلدت حركة أنصار الله في بيئة أزمة سياسية واجتماعية مزمنة اجتاحت اليمن لعقود، حيث كان الفساد السياسي والتبعية العمياء للرياض وواشنطن وغياب أي مشروع حقيقي لإعادة مكانة اليمن الحضارية هي السمة الغالبة. صرخة السيد حسين بدر الدين الحوثي مطلع الألفية شكّلت جواباً تاريخياً على سلب القرار الوطني وإهانة كرامة الإنسان اليمني. لم تكن تلك الصرخة مجرد شعار، بل تعبيراً عن رفض عميق لواقع مأساوي فرضته أنظمة تابعة تحولت إلى أدوات تخدم المصالح الغربية والإقليمية على حساب الشعب اليمني. وفي تلك المرحلة، كانت صعدة المهمشة جغرافياً وسياسياً الشرارة التي أوقدت فكرة المقاومة، مقاومة لم تنحصر في مواجهة السلطة المركزية الفاسدة في صنعاء، بل كل نظام يسعى لترسيخ الهيمنة الخارجية.

في الوقت الذي كانت فيه معظم الحركات والأنظمة العربية الموصوفة بـ«المعتدلة» منشغلة بتوقيع الاتفاقيات وتطبيع العلاقات، كان أنصار الله يشقون طريقهم وسط الدماء والرماد لبناء مشروع مستقل يؤمن أن اليمن يجب أن يكون حاضراً في معادلة الصراع، لا مجرد حديقة خلفية لممالك الخليج. هذا الإيمان بالاستقلال لم يكن خطاباً سياسياً فحسب، بل تُرجم إلى أفعال ميدانية. فقد بنى أنصار الله قاعدة شعبية واسعة عبر تقديم نموذج للعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والدفاع عن الكرامة الوطنية، ما كسبهم دعماً متزايداً في مختلف مناطق اليمن.

أنصار الله: من صعدة إلى صنعاء… مشهد النهضة تحت النار

بين عامي 2004 و2014 خاض أنصار الله ست حروب دامية ضد النظام اليمني المدعوم سعودياً وأمريكياً. لكن هذه الحروب لم تضعف الحركة، بل صقلتها سياسياً وتنظيمياً وأيديولوجياً. تحولت تلك المواجهات إلى مختبر صاغ قدراتها العسكرية المبتكرة، وأسّس شبكات دعم شعبي، وعزّز تماسكه الداخلي في مواجهة تحالف القوى العالمية والإقليمية. كل حرب كانت درساً عملياً في الصمود، علّمت الحركة كيف تحوّل الضعف إلى قوة والحصار إلى فرصة لبناء الذات.

في عام 2014، انطلقت انتفاضة شعبية واسعة ضد حكومة عبد ربه منصور هادي التي لم تكن تملك سوى رسائل السفارات أداةً للحكم. تمكن أنصار الله من دخول صنعاء دون معارك كبرى معلنين مرحلة جديدة: اليمن بيد اليمنيين. لم يكن هذا الإنجاز نصراً عسكرياً فحسب، بل تجلياً لإرادة شعبية رفضت الاستمرار تحت سلطة تفتقد الشرعية والكفاءة، واختارت قوة وطنية تواجه الضغوط الخارجية وتسعى لاستعادة السيادة الوطنية.

الدولة المقاومة: تثبيت السلطة بالصمود لا بالصفقات

بعد عام 2015، حين أطلق التحالف السعودي – الأمريكي عدوانه الشامل على اليمن، واجهت صنعاء امتحاناً وجودياً. لكن المفارقة أن العاصمة لم تسقط والحركة لم تنهار، بل تحولت الحرب إلى محرّك للتسليح الذاتي ونهضة عسكرية غير مسبوقة في التاريخ الحديث لليمن. نجح أنصار الله في تحويل الحصار الاقتصادي والعسكري إلى فرصة لبناء قدرات محلية؛ حيث طوّروا الصناعات العسكرية بما في ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة ومنظومات الدفاع الجوي، في حين كانت دول أخرى تعتمد كلياً على الاستيراد من الخارج.

تمكنت الحركة من بناء قوات مسلحة متكاملة بعناصر صاروخية وجوية، وأنتجت طائرات مسيّرة وطورت أنظمة دفاع جوي محلية، بينما كانت بقية الدول العربية تشتري أمنها من البنتاغون والبيت الأبيض.

هذا الإنجاز لم يكن مجرد تطور تقني، بل تأكيداً أن المقاومة يمكن أن تكون محلية ومستقلة معتمدة على قدراتها الذاتية، لا خاضعة لشروط السوق العالمية. وقد عزز هذا التقدم موقع اليمن كلاعب إقليمي قادر على فرض معادلات جديدة في المنطقة.

مقارنة: أنصار الله بين بيروت وطهران وبغداد

على غرار حزب الله في لبنان، بُنيت حركة أنصار الله على فكرة «المقاومة المركبة»: مزيج من الأيديولوجيا والإنتاج والمواجهة المباشرة مع العدو. وكما في تجربة الجمهورية الإسلامية، لم تنتظر الحركة دعماً دولياً، بل انطلقت من الداخل ثم نسجت تحالفاتها مع طهران وضاحية بيروت الجنوبية والفصائل الفلسطينية والعراقية. هذه التحالفات لم تكن تبعية، بل شراكات استراتيجية قائمة على مصالح مشتركة وهدف سامٍ: مواجهة الهيمنة الصهيونية والأمريكية. ورغم الغارات الجوية والاغتيالات والحصار، حافظ أنصار الله على استقلال قرارهم، ما منحهم موقعاً مميزاً في محور المقاومة: لا يتبعون أحداً لكنهم حاضرون في كل الجبهات، من البحر الأحمر حتى حدود فلسطين المحتلة.

العدوان على إيران… واليمن في قلب الخريطة

عندما انطلقت الحرب الصهيو – أمريكية ضد الجمهورية الإسلامية في يونيو الماضي، كان موقف أنصار الله مغايراً لبقية الحكومات والمنظمات العربية. ففي اليوم الثاني للعدوان، أعلن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي بوضوح: «إذا تمادى الأمريكي والعدو الصهيوني، فلن يبقى جبهتنا صامتة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى