حينما اهتزّت يافا: ردّ إيران على خنجر الناتو

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
في الساعة التاسعة ليلًا من الثالث عشر من خرداد ۱۴۰۴، لم يكن التوقيت مصادفة، بل كان صفعة محسوبة. أطلقت إيران أكثر من مئة صاروخ وطائرة مسيّرة، بعضُها مجهولٌ لدى منظومات الدفاع الجوي، من أعماق أراضيها لتصيب قلب المشروع الصهيوني. لم يكن ذلك مجرد ردّ عسكري، بل زلزالٌ استراتيجي: قرارٌ إيرانيٌ بإعادة رسم معادلات الردع وخطوط الاشتباك.
حمل اسمُ العمليّة لوحده الرسالة: «وعد صادق ۳»؛ عنوانٌ لا يحتاج إلى تفسير، امتدادٌ لسلسلة من الردود المُوجَّهة. وما وراء الاسم تفاصيلٌ لا تترك مجالًا للخطأ أو التسامح. فخصوم إيران لم يكونوا فقط الكيان الصهيوني، بل حلفُ شمال الأطلسي بكل أدواته الإلكترونية والاستخباراتية: من طائرات EC‑37B الأميركية إلى مسيّراتٍ أوروبية، ومن غرف العمليات في قبرص إلى خلايا نائمة داخل إيران.
أطلق الصهاينة على عدوانهم اسم «الصدمة»، لكن ردّ إيران كان «الصاعقة». استُهدِف القادةُ الكبار: سلامي، باقري، رشيد، حاجيزاده—رجالٌ رسموا معارك السنوات. ولم تكن الضربة من الخارج فحسب: ٩٠٪ منها انطلقت من داخل إيران، بطائرات مسيّرة حوّلها عملاءُ المنافقين والمجموعاتُ الكردية المأجورة إلى أدوات حرب.
لكن مخططات العدو فشلت. لم تتزعزع القيادة، ولم ينهار التماسك. ما حدث بعد ذلك لم يكن مجرد ردّ؛ بل انهيار هيبة العدو.
ساحةُ النار: خريطة الأهداف المدمّرة
لم تكن صواريخُ إيران عرضية:
- نيفاتيم، قاعدةُ مقاتلات F‑35 ورافديةُ الحروب المقبلة، تحوّلت إلى حفرةٍ من نارٍ ورماد إثر تدمير ٤٠٠ مليون دولار فيها خلال ساعات.
- حتسريم، القاعدةُ التي انطلقت منها مؤامرة اغتيال نصرالله، ذاقت طعم الحساب.
- رامون، عين الصهاينة في الجنوب، أُقفل بفعالية.
- تل نوف، مستودعُ الرؤوس النووية، لم يصمد أمام العاصفة.
- سيدوت ميخا، بنكُ الصواريخ الاستراتيجية، بات عرضةً للضربات.
- عين شيمر، مقرّ منظومات حيتس ومقلاع داوود والقبة الحديدية، شهدت تحطم أسطورة «السِتر الدفاعي» السابق.
حتى غواصات دلفين في حيفا—آخرُ درعٍ بحريٍ للصهاينة—لم تنجُ من الضربة، دلالةً على أن إيران لا تمزح حين تقرر المواجهة.
خرائطُ الرعب: جغرافيا الخوف في فلسطين المحتلة
شملت العمليةُ كلّ فلسطين المحتلة:
- من كريا في قلب يافا إلى غوش دان المملوءة بالمقارّ الأمنية.
- من الجليل الأعلى إلى النقب، ومن صفد إلى القدس—لم تبقَ بلدةٌ آمنة.
كان التغطيةُ الصاروخية شاملة، والخوفُ عامًا. الملاجئ التي بُنيت عبر سبعين عامًا لم تصمد أمام صرخات الجنود ورعب المستوطنين.
عندما تتقدّم القيم على التكنولوجيا
لم تكن هذه معركةَ أسلحة فقط، بل اختبارٌ للوعي. صحيح أن منظومات دفاع متطورة مثل «بيكان‑۳»، “ثاد” و«القبة الحديدية» أنفقت ملايين الدولارات لاعتراض الصواريخ، إلا أن مسيّرات اليمنيين، في الرابع من اردیبهشت، ضربت مطار بن غوريون بصواريخ هايبرسونيك لا تكلفُ ألف دولار للواحدة. هذه الفجوة ليست فنية فحسب، بل اقتصادية واستراتيجية: أُسرِلت دولةٌ بأكملها إلى رهينة توازن مالي مختلّ.
رأسُ المال الحقيقي: الشعب
في مفصل الحرب، حين يتعيّن على النظام إثبات قدرته على الصمود، تظهر مقاييس الشرعية الحقيقية. خرج ملايين الإيرانيين إلى الشوارع، ليس شعاراتٍ غضبى فحسب، بل بتفويضٍ متجدّد للقيادة. كان هتاف «الموت لإسرائيل» إذنًا للردّ.
في مشهدٍ مفاجئ، صدرت بياناتٌ عن معارضين في الخارج—مفكرين ومخرجين وشخصيات بارزة—أعلنوا دعمهم للقيادة الإيرانية. لم يعد الأمر سيادةً فقط، بل هُويّة.
خلفَ الدخان: إعادة البناء قبل انطفاء الرماد
من الساعات الأولى، قبل أن تنطفئ شاشاتُ الرصد، صدرت أوامرٌ بإعادة هيكلة القيادة: عُيّن محمد پاکپور وعبدالرحيم موسوي في مواقع قيادية حاسمة. لم يكن ارتباك الصدمات الكبرى حاضراً؛ فانتقل السُّلّم القيادي بسلاسة.
وفي المحاور الأمنية، شنّت الأجهزةُ عملياتٍ واسعة على الخلايا النائمة: اكتشاف مخازن الطائرات المسيّرة، المتفجرات، أجهزة التشويش وخطوط الاتصال بالخارج. تحوّل الخطرُ إلى فرصةٍ لتطهير الداخل واستعادة التماسك.
ما بعد الحرب: مشهدٌ جديد
لن تُعلن «وعد صادق ۳» في نشرةٍ عسكرية فقط، بل غُرِسَت في الذاكرة الإقليمية. لم تعد تل أبيب تستطيع التهديد بالحرب دون حساب لملاجئها المفتوحة. ولم يعد بإمكان واشنطن إصدار أوامر اغتيال دون أن تتخيل طائراتها المتفحمّة.
ما جرى لم يكن مجرد عرضٍ للصواريخ، بل تجسيدٌ للوعي. هكذا ترتقي الأمم: حين يكون الدم امتدادًا للأفكار والمقاومة امتدادًا للحياة.
هل تغيّرت معادلة الردع؟
لا.
المعادلة انتهت.
وبدأنا من جديد.