المحور الأول: السياقات وبداية الحرب – الجزء الرابع

✍️ كاتب سياسي:
من الدعم إلى المواجهة المباشرة: دلالات الرد الإيراني
في غضون ساعات، ردّت إيران على العدوان عبر عملية “الوعد الصادق 3″، وهي عملية مثّلت نقطة تحول في استراتيجيتها العسكرية. فقد أطلقت إيران أكثر من 550 صاروخًا باليستيًّا، من بينها صواريخ “خيبر” و”فاتح 110″، إضافة إلى أكثر من ألف طائرة مسيّرة من طراز “شاهد 136” و”مهاجر-6″، استهدفت قواعد عسكرية في النقب، ومراكز استخباراتية في الجولان المحتل، ومحطة توليد الكهرباء في عسقلان.
نجحت طائرتان مسيّرتان على الأقل في اختراق أنظمة الدفاع الجوي الصهيونية، بما في ذلك “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود”، وتسببتا بخسائر مادية وبشرية كبيرة، منها تدمير جزء من قاعدة “نيفاتيم” الجوية، ومقتل ضباط استخبارات، جنرالات، جنود صهاينة، وعلماء نوويين في معهد وايزمان.
جاء هذا الرد كمؤشر على تحوّل استراتيجي من سياسة “الصبر الاستراتيجي”، التي انتهجتها إيران لعقود لتجنب المواجهة المباشرة، إلى سياسة “التناسب الاستراتيجي” الهادفة إلى تحقيق الردع المتبادل. واستثمرت إيران الخسائر التي تكبدتها في سوريا ولبنان لتعبئة الداخل الشعبي، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في طهران وأصفهان دعماً للرد العسكري.
نسّقت إيران تحركها مع حلفائها؛ إذ نفّذت أنصار الله هجمات صاروخية على ميناء أم الرشراش (إيلات) بصواريخ “قدس”، بينما أعلن حزب الله استعداده للدخول في المواجهة إذا طلبت طهران، رغم التحديات الداخلية الناجمة عن اغتيال قياداته.
على الصعيد السياسي، عزز الرد الإيراني من وحدة الداخل، حيث تخلت الأحزاب السياسية عن خلافاتها دعماً للموقف الوطني، ما ساهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية. دولياً، منح هذا الرد إيران ورقة تفاوضية قوية، خاصة بعد أن أدانت دول مثل الصين وروسيا وقطر ودول البريكس العدوان الصهيوني، معتبرةً إياه انتهاكاً للقانون الدولي. كما أظهر الرد القدرات الإيرانية المتقدمة في مجال الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، ورسّخ صورة إيران كقوة إقليمية قادرة على مواجهة الكيان الصهيوني رغم التحديات الإقليمية.
✍️ فشل الهجوم وتداعياته الاستراتيجية على محور العدو
رغم الدقة العملياتية للهجوم الصهيوني، إلا أنه فشل في تحقيق أهدافه الاستراتيجية. لم يتم تدمير البرنامج النووي الإيراني، إذ تشير التقارير إلى أن إيران نقلت تجهيزاتها الحساسة مسبقًا إلى منشآت تحت الأرض. كذلك، لم يؤدّ الهجوم إلى انهيار النظام السياسي في طهران، بل على العكس، عزز من وحدة الجبهة الداخلية وخرجت مظاهرات داعمة للحرس الثوري تطالب بالحصول على سلاح نووي.
أما الرد الإيراني القوي، الذي شمل اختراق منظومات الدفاع الجوي الصهيونية، فكشف عن ثغرات في أنظمة مثل “القبة الحديدية” التي أخفقت في اعتراض عدد كبير من الصواريخ والطائرات المسيّرة.
داخليًا، تسبّب الرد الإيراني في أزمة سياسية واجتماعية داخل الكيان؛ حيث نزح حوالي 25% من المستوطنين من مستوطنات الجنوب والشمال، وأصدرت الحكومة الصهيونية قرارات بحظر السفر، في محاولة لمنع الهجرة العكسية التي زادت من الضغوط عليها. اقتصادياً، تكبّد الكيان خسائر مباشرة تُقدّر بـ12 مليار دولار نتيجة تدمير البنية التحتية الحيوية كمحطة كهرباء عسقلان.
سياسيًا، واجه نتنياهو انتقادات عنيفة من أحزاب المعارضة التي اتهمته بـ”مغامرة غير محسوبة”، ما عمّق الانقسام الداخلي. وعلى الساحة الدولية، أدّى الهجوم إلى زيادة عزلة الكيان، إذ أدانت عدة دول إقليمية العدوان، وأعربت عن قلقها من تداعياته، واعتبرته خرقًا صارخًا للقانون الدولي. وتعرّضت الولايات المتحدة أيضًا لانتقادات في الأمم المتحدة بسبب دعمها المباشر للعدوان.
رغم الخسائر التي تكبّدتها إيران في سوريا ولبنان، إلا أنها لم تمنع طهران من ترسيخ معادلة ردع جديدة. فقد دفع سقوط نظام الأسد واغتيال نصر الله إيران إلى تعزيز اعتمادها على قدراتها الذاتية، مما زاد من عزمها على المواجهة. هذه التداعيات أعادت تشكيل ميزان القوى في المنطقة، وعززت مكانة إيران كقوة صلبة قادرة على الصمود ومواجهة التحديات.
✍️ نحو مرحلة جديدة من الصراع
لم يكن العدوان الصهيوني على إيران في 13 يونيو 2025 مجرد عملية عسكرية كغيرها من الحروب السابقة التي شنّها الكيان، بل كان لحظة مفصلية أعادت رسم قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من سعي الكيان لاستغلال ما سمّاه بسياسة “إضعاف إيران” عبر إسقاط نظام الأسد واغتيال آية الله نصر الله، إلا أن الرد الإيراني القوي أثبت تماسك النظام عسكرياً وسياسياً.
لقد كشف هذا العدوان عن طموحات الكيان في فرض هيمنته الإقليمية، لكنه في المقابل، أظهر أيضًا حدود هذه الطموحات أمام إيران وحلفائها. المرحلة القادمة ستكون مرحلة صراع مفتوح، عنوانها الردع المتبادل، واحتمال اتساع رقعة المواجهة في المنطقة أكثر من أي وقت مضى.