القسم السياسي

خطاب إلى وسائل إعلام محور المقاومة: كيف يمكننا صون قداسة الكلمة؟

✍️ مجاهد الصريمي – صنعاء:

 

ما أقدس الكلمة، سواء نُطِقَت أو سُطِّرت، حين تنبع من أعماق إنسان يسعى لتقويم اعوجاج، أو ترميم نقص، أو ملء فراغ، أو سدّ ثغرة، أو تلبية حاجات عاطفية وروحية، أو فتح طريق ممهد نحو وعي شامل، وإرادة راسخة، وفكر خلاق، يقظ، مضيء ومبتكر.

فكر يواكب الحركة الإنسانية، ويتفاعل مع الواقع، ويمنح كل إنسان حرٍّ القدرة على الحضور في المشهد، لا أن يبقى على هامش حياة الآخرين؛ ولا أن يكون أداة جامدة في أيديهم، ولا كائناً عاجزاً لا يتفاعل إلا ضمن الإطار المرسوم له، لا ينال سوى الضربات، والصدمات، والحرب النفسية الناتجة عن تحولات وأحداث غفل عنها، بسبب رضاه بالسكون، واكتفائه بالماضي، وتغافله عن ضرورة السعي لما ينبغي أن يكون.

كم من الأوقات أُهدِرت في الرد على شبهات الأعداء، وعشنا في فضائهم المفروض، ذلك الفضاء الذي جذبونا إليه وأصبح شغلنا الشاغل؛ حتى نسينا الرسالات والمهام الأصيلة التي تفرضها المسؤولية على كل مستوى، وأصبح همنا الأكبر هو كيفية الرد على شبهاتهم، وفضح أكاذيبهم، وإبطال دعاواهم، بينما أُهملت قضايا أخرى ولم تحظَ باهتمامنا.

ولا شك أن فضح الأكاذيب والحرب النفسية للعدو واجب، لا سيما عندما يكون الهدف تشويه صورتنا أو إخفاء الحقيقة عن الناس، لكن هذا يجب أن يتم بتخطيط محكم، وأساليب منظمة، وأدوات فعّالة، دون تسرّع أو فوضى أو سوء تدبير أو سذاجة، ودون أن نفتح ثغرة يتسلل منها العدو، أو نسلّم الميدان لجَهَلة يندفعون بدافع العاطفة اللحظية، دون أن يكون لديهم أساس من فكر، أو ذرة من وعي، أو جذور من عقيدة، وهكذا يصل العدو إلى هدفه بأقصر طريق وأقل تكلفة.

إن مهمة الكاتب أو المتحدث في هذا العصر – سواء كان مفكراً، أو أديباً، أو ناشطاً إعلامياً – هي أن يجعل كل ما يثير غضب العدو، ويزرع فيه القلق والاضطراب والخسارة وفقدان التوازن وشعور الزوال، ضمن أولوياته؛ ومن هذا المنطلق، عليه أن يبحث في كل مواطن الضعف والقصور والسلبيات في المجتمع والفكر والمؤسسات والتيارات، ويكشفها، ويسعى لإزالتها، وينقّي الواقع والذهنية والبُنى من آثارها.

هذه الحركة تنبع من الإيمان؛ إيمان مستمد من الثورة الحسينية، يهدف إلى إصلاح شامل للإنسان والحياة؛ إيمان قرآني في المضمون، ونبوي في المسار؛ بكل معانيه، وآفاقه، ونماذجه، وقيمه، وأخلاقه، وأصوله.

وعلى هذا الأساس، لا يبقى مكان لنشاط محدود، ولا مبرر لأعمال موسمية؛ ولا يجوز الاكتفاء بجانب وإهمال الجوانب الأخرى؛ كما لا يصح التركيز على قضية واحدة على حساب قضايا أخرى أهملت حتى تعفّنت وأصبح حلّها عسيراً.

احذروا من آفة “التسطيح”، أيها الكرام! فقد تسلّلت إلينا يوم فتحنا الأبواب لأصحاب الأقنعة، الذين يبدّلون ألوانهم حسب الأجواء، ويمثّلون دور المؤمنين الأوفياء، وهم سادة الخداع والمكر؛ أولئك الذين اعتمدوا سياسة الالتفاف والتحريف، واستبعدوا كل الأفكار الأصيلة، حفاظاً على مصالحهم، ومواقعهم، وامتيازاتهم، وأقربائهم.

وهكذا، أصبحت الأفكار والخطوط الرسالية عرضة للتحريف والتشويه والاقتطاع والإضافة والنقصان، حتى اتخذها الطامعون بالشهرة، والسلطة، والدنيا، لعبة بأيديهم؛ لأن الخط الرسالي، بخلاف النظريات العلمية والفلسفية التي لا يفك رموزها إلا المتخصصون، موجّه إلى الجماهير، ومصمم لكل الناس، فادعى هؤلاء السطحيون أنهم الممثلون الحصريون له، وقدّموه بصورة تخدم مصالحهم، وتبرر جهلهم وظلمهم وكبرهم وانحرافهم وفشلهم، دون أن تكون لهم أي صلة بحقيقة المنهج وصدق الانتماء لقياداته. فحافظوا على الشعائر والأذكار بشرط أن تبقى ميتة، لا روح فيها ولا أثر، ولا تحدث أدنى تحوّل في الفكر أو السلوك.

أعلم أن هذا الكم من الخداع والتمثيل دفعك للتفكير بأن الماضي لن يعود، وأن المستقبل ليس ملكك. هذا صحيح. لكن لا تزال أشياء كثيرة في يدك. وأقل ما يمكنك فعله هو أن تغيّر الواقع، إما بالعمل أو في الوعي؛ لأن الرهان الحقيقي هو على ما تدركه في داخلك من الأشياء، لا على الأشياء ذاتها. وهذه معادلة ليست من ظلمات عمامة صوفي، ولا من سطحية مادي ساذج، بل معادلة بين الاثنين؛ من أدركها، امتلك جوهرة الحقيقة—وتلك الجوهرة تُنير الطرق، وتشعل الأهداف في الأذهان.

كل حدث يحمل مئة وجه قابل للتحليل، لكن الإنسان الحكيم يرى أجملها، ويزيح الباقي ببصيرته. وهذا الوفاء ليس التزاماً بالغير، بل وفاءٌ للذات، حتى لا تتكلّس الحياة في داخله.

أعلم أن السير في الضباب مقلق، فلا لوم على من أضاع الطريق؛ بل اللوم على من تخلّى عن الطريق، بحثاً عن الراحة. ففي الجانب الآخر من الشمس، هناك حقيقة حجبها وهجها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى