الجمهورية الإسلامية ومسألة السيادة في عالمٍ تتهدده انتهاكات الأمن

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
عندما تُصدر مجموعة من الدول الغربية الكبرى – بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا – بياناً مشتركاً تتهم فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ “التدخل في عمليات استخبارية خارجية”، فإن السؤال الأول الذي ينبغي طرحه ليس عمّا فعلته إيران، بل عمّا تُخفيه هذه المجموعة من توترات وتعبئات واضطرابات في أدوات الهيمنة والنفوذ التي من خلالها انتهكت سيادة الآخرين.
البيان الذي وُقّع في 31 يوليو/تموز من قِبل حكومات غربية لم يكن مجرّد اتهام، بل كان اعترافاً ضمنياً بأنّ إيران لاعب مستقل يصعب احتواؤه، حتى في عمق العواصم الغربية التي اعتادت أن تتحرك فيها أذرع الموساد والسي آي إيه بلا قيود أو مساءلة. الغرب، الذي لعب دور “القاضي غير المنحاز” في شؤون الشرق لأكثر من قرن، يبدو اليوم مرتبكاً أمام دولة قررت أن لا تكون ضحية بعد الآن.
من يُهدّد من؟
اللافت أنّ هذه “الإدانات” المتكررة تأتي من دول استخدمت منذ زمن بعيد أدوات الاستخبارات لتغيير الأنظمة، وتخطيط الانقلابات، وتنفيذ عمليات اغتيال غير قانونية، سواء في الشرق الأوسط أو في قلب أميركا اللاتينية. ما يجري هنا هو محاولة ممنهجة لتبديل المواقع وقلب الوقائع: بدلاً من مساءلة دور الأجهزة الاستخباراتية في تدمير العراق وسوريا وليبيا، يتم تحويل الأنظار إلى “مركز ديني في اسكتلندا”، ويُدّعى أنّه يعمل بأوامر من طهران.
الخوف الغربي من “أنشطة إيران الخارجية” لا ينبع من حادث استخباري محدد، بل يعكس حقيقة أعمق: إيران لم تعد تتصرف كدولة محاصرة، بل باتت تُحاصر خصومها سياسياً وأمنياً وإعلامياً، وأعادت بناء معادلة “الردع المتبادل”، بحيث لم يعد أحد في مأمن من عواقب عدوانه.
بين المجتمعات والجاليات: السيادة ليست جريمة
عندما تسعى دولة إلى إنشاء قاعدة بيانات لمواطنيها في الخارج، فإنّ ذلك يُعتبر في الظروف العادية شكلاً من أشكال الحماية القنصلية أو التواصل الدبلوماسي أو حتى الرعاية الاجتماعية، كما تفعل فرنسا وتركيا والصين والهند. ولكن حين تقوم إيران بالأمر ذاته، يتحوّل فجأة إلى “أداة مراقبة” و”شبكة أمنية تهدّد الخصوصية”.
في الحقيقة، إنّ إيران، المنخرطة في عدة جبهات ضد شبكات تجسس دولية وأجهزة استخبارات تعمل حتى داخل الأسر والعائلات لتجنيد العملاء، لا تفعل سوى ممارسة حقها الطبيعي في حماية أمنها القومي، من خلال مراقبة تحرّكات من ثبت تعاونهم في مشاريع التفتيت والتحريض والانقسام. فلا دولة يمكنها أن تواجه الموساد والمارينز والإعلام الصهيوني، من دون أن تمتلك منظومة دفاعية داخلية وخارجية.
من “مراكز النفوذ” إلى “منصات الدفاع الناعم”
ما يُروَّج له في وسائل الإعلام الغربية تحت عنوان “النفوذ الإيراني في المراكز الإسلامية” ليس سوى محاولة لضرب المجتمعات الإسلامية في صميم هويتها. الربط المصطنع بين “وضع صور الإمام الخميني” أو تنظيم مراسم تأبين للرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي، وبين “التطرّف ومعاداة السامية”، لا يُعبّر سوى عن خوف عميق من تمسّك المسلمين الأوروبيين بهويتهم.
في الواقع، العديد من هذه المراكز المستهدفة تؤدي أدواراً ثقافية وتوعوية قد تتجاوز أحياناً دور المساجد الكبرى الرسمية. هذه المساحات – في اسكتلندا، ألمانيا، السويد – كانت من آخر معاقل المقاومة ضد محاولات دمج المجتمعات في النموذج النيوليبرالي الغربي الفارغ من الروح. لذا فإن استهدافها بذريعة “التمويل الإيراني” ليس إجراءً أمنياً بقدر ما هو استهداف خفي للهوية.
ممّ تخاف أوروبا؟ ولماذا الآن؟
التحذيرات المتكررة بشأن “نفوذ الحرس الثوري” أو “أنشطة قوة القدس” في أوروبا ليست جديدة، لكن بعد سلسلة من التحولات الإقليمية والدولية، أخذت طابعاً هستيرياً، أبرزها:
- فشل مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني وتزايد نفوذ قوى المقاومة.
- تعمّق العلاقات بين إيران وروسيا والصين، مما يُضعف المشروع الأحادي القطبية الغربي.
- التحوّل النوعي في قدرة الردع الإيرانية، خصوصاً بعد استهداف منشآت صهيونية في عمق فلسطين المحتلة.
- صمود الداخل الإيراني رغم أشد موجات العقوبات والحرب النفسية.
لذلك، فإن موجة “البيانات الجماعية” و”التقارير الاستخباراتية” ليست سوى محاولة للتغطية على العجز الاستراتيجي: إيران لم تعد عدواً يمكن تطويقه بسهولة.
حين تكون التهمة هي عدم الانصياع
في المحصلة، كل ما يُنسب إلى الجمهورية الإسلامية – من “استخدام عصابات إجرامية”، إلى “تهديد المواطنين”، إلى “اختراق المراكز الإسلامية” – يمكن تلخيصه بجملة واحدة: طهران ترفض أن تكون مثل الأنظمة التابعة الأخرى. والغرب، الذي لا يفهم إلا منطق الهيمنة، يرى في سيادة إيران خطراً وجودياً، لا لأنها تهدد حدوده، بل لأنها تفضح هشاشته.
إيران لم تصادر حرية أحد، ولم تطارد صحفيين لأنهم معارضون، بل تواجه مشروعاً استخباراتياً متكاملاً زرع العملاء، وصاغ الروايات، واستخدم المرتزقة تحت مسمّى “معارضة ومنفى”.
ما يُقدَّم لنا كـ”خطر خارجي إيراني” ليس سوى انعكاس لِرُهاب داخلي غربي: من مجتمع إسلامي يثق بإيران أكثر من ثقته بأنظمته، ومن سردية مقاومة لا تموت، بل تتجدّد.