سوريا؛ قصة سقوطٍ مخطّط لها / لماذا كان محور المقاومة هو الهدف؟

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
لفهم ما جرى في سوريا، لا بد من العودة إلى الواقع الذي كانت تعيشه قبل المؤامرة العالمية عليها. لم تكن سوريا قبل عام 2011 دولة فاشلة، ولا ديكتاتورية متعطشة للحرب، ولا تهديداً لشعبها، بل كانت دولة مستقلة ذات مواقف صلبة، واقتصاد مزدهر نسبياً، وجيش قوي، ودور محوري في محور المقاومة. هذه الخصائص جعلت من سوريا هدفاً للمخططات الخارجية التي سعت لتدميرها.
🔴 سوريا قبل المؤامرة العربية-الأمريكية: ماذا كانت؟
1. اقتصاد مقاوم ومتقدم
قبل عام 2011، كان الاقتصاد السوري قائماً على مزيج من القطاعين العام والخاص. شكّلت قطاعات النفط، الزراعة، السياحة والصناعة أعمدة الاقتصاد. كانت سوريا تنتج حوالي 450 ألف برميل نفط يومياً، يُصدَّر جزء منه إلى أوروبا. بلغ معدل النمو الاقتصادي بين 4% و6%، ولم يكن هناك تقريباً أي دين خارجي، وكان معدل التضخم منخفضاً، ونسبة الفقر الرسمية أقل من 15%. كانت سوريا مثالاً لدولة “مكتفية ذاتياً”، رفضت الاقتراض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبالتالي تجنّبت شروطهما المجحفة.
2. التعليم: عام، مجاني وشامل
انخفض معدل الأمية في سوريا إلى أقل من 10%. وكان التعليم الابتدائي متاحاً ومجانياً للجميع. تجاوز عدد الطلاب الجامعيين 600 ألف في الجامعات العامة والخاصة. حتى القرى كانت تحتوي على مدارس فعالة، ولعب التعليم الفني والمهني دوراً كبيراً في إعداد القوى العاملة.
3. الرعاية الصحية الشاملة
لم تكن سوريا تنتج أدوية تكفي حاجاتها فحسب، بل كانت تصدّرها إلى أكثر من 50 دولة. كانت الرعاية الصحية مجانية، ومتوسط العمر المتوقع 74 عاماً، وتجاوزت تغطية تطعيم الأطفال نسبة 90%. شكّلت شبكة المستشفيات العامة والمراكز الصحية في المدن والقرى ميزة تفوق على كثير من الدول العربية المجاورة.
4. رفاه اجتماعي حقيقي
كانت أسعار الكهرباء، الماء، الخبز، والوقود مدعومة بشكل كبير. ورغم أن الرواتب لم تكن مرتفعة، فإن كلفة المعيشة كانت منخفضة، والمسكن متاحاً للجميع. وكان النقل العام رخيصاً ومنتشراً، وكانت هناك شبكة دعم اجتماعي تشمل جميع فئات المجتمع.
5. الجيش: خط أحمر للأعداء
كان الجيش السوري يضم حوالي 300 ألف جندي (بما في ذلك قوات الاحتياط)، ويُعد من أقوى الجيوش العربية. وبدعم تسليحي من إيران وروسيا، امتلك الجيش قدرات صاروخية باليستية ومنظومات دفاع جوي متطورة، ما جعله فاعلاً إقليمياً لا يمكن تجاهله.
6. استقرار مالي ونقدي
كان سعر صرف الليرة السورية مستقراً، حيث تراوح بين 45 و50 ليرة مقابل الدولار. بلغ احتياطي النقد الأجنبي حوالي 20 مليار دولار. ولم تكن سوريا مدينة للبنك الدولي، مما عزز نموذجها الاقتصادي المستقل.
7. ثقافة وحضارة غنية
كانت دمشق وحلب، وهما من أقدم مدن العالم، مركزين للشعر والمسرح والموسيقى العربية. تميزت سوريا بصناعة الدراما التلفزيونية الرائدة في المنطقة. وتجلّى التنوع الديني والإثني واللغوي في تسامح اجتماعي واسع. وكانت سوريا مثالاً للتعايش بين السنّة، والشيعة، والعلويين، والمسيحيين، والدروز، والأكراد، مما شكّل نسيجاً اجتماعياً متماسكاً.
🔻 لماذا كان لا بد من تدمير هذا البلد؟
الجواب واضح: كانت سوريا ركيزة أساسية في محور المقاومة. إلى جانب إيران وحزب الله، كانت من أكبر الداعمين لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية. لم تكن دولة يمكن إخضاعها أو شراؤها. تعاونها الوثيق مع إيران، وتحالفها الاستراتيجي مع روسيا، وسياستها الخارجية المستقلة جعلت منها “كابوساً مشتركاً” للولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، والأنظمة الرجعية العربية.
في عام 2011، انطلق مشروع عالمي لتدمير سوريا. تم استغلال بعض المطالب الاجتماعية المشروعة لتحفيز احتجاجات تحولت بسرعة إلى صراع مسلح. دخلت الجماعات المتطرفة، بدعم مالي وعسكري واستخباراتي من الولايات المتحدة وحلفائها، من الحدود التركية والأردنية والعراقية.
خلافاً للسردية الإعلامية الغربية، لم تكن تلك الجماعات “ثواراً” يطالبون بالحرية، بل من القاعدة إلى داعش، ومن جبهة النصرة إلى أحرار الشام، كانت هذه التنظيمات جزءاً من تحالف غير معلن تقوده واشنطن والرياض وأنقرة وتل أبيب المحتلة.
🔻 سوريا بعد “الربيع العربي” والثورة المزعومة
ما سُمّي بـ “الربيع العربي” كان في الواقع محاولة منظمة لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم المصالح الغربية والصهيونية. في سوريا، بدأت الاحتجاجات في مارس 2011 بمطالب اجتماعية، لكنها تحولت بسرعة إلى حرب داخلية مدمرة بفعل التدخلات الخارجية. تم تسليح الجماعات المتطرفة، وتدفّق آلاف المقاتلين الأجانب بدعم من دول غربية وإقليمية. لم يكن هدفهم “الديمقراطية”، بل إسقاط نظام المقاومة وتفكيك الدولة.
لأكثر من عقد، عانت سوريا من حرب مدمرة خلفت مئات الآلاف من القتلى، وملايين النازحين، وبنية تحتية منهارة. انهار الاقتصاد، وفقدت الليرة السورية قيمتها بشكل كارثي. تعرّضت مدن تاريخية مثل حلب ودمشق لدمار هائل، وسيطرت الجماعات المتطرفة أو القوات الأجنبية على مساحات واسعة من البلاد.
🔻 الوضع الدموي بعد سقوط نظام بشار الأسد
في ديسمبر 2024، وبعد سنوات من الحرب، سقط نظام بشار الأسد على يد ائتلاف من الجماعات السلفية بقيادة “هيئة تحرير الشام”، فرع القاعدة في سوريا. وتولى “أحمد الشرع” المعروف بـ “أبو محمد الجولاني” الحكم في دمشق. هذا الرجل، الذي كان من عناصر القاعدة، أصبح رمزاً لتحوّل سوريا إلى دولة تحكمها الجماعات التكفيرية.
عقب السقوط، عمّت الفوضى والعنف البلاد. نفذت الجماعات المتطرفة إعدامات جماعية، خاصة ضد الأقليات الدينية كالع Alعلويين، والمسيحيين، والدروز. تحولت المناطق الآمنة نسبياً إلى ساحات تصفية حسابات. النساء والأطفال كانوا من أبرز ضحايا هذه المجازر، التي وصفها الإعلام الغربي ـ بسخرية ـ بأنها “الانتقال إلى الحرية”.
استغل الكيان الصهيوني هذا الوضع لتعزيز وجوده في الجنوب السوري، وأرسل قوات إلى محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، بحجة “حماية الحدود”. في الحقيقة، كان ذلك جزءاً من خطة لضم أجزاء من جنوب سوريا إلى الأراضي المحتلة. في الشمال، عززت تركيا ـ بدعم أمريكي ـ سيطرتها على مناطق واسعة، وأنشأت منطقة عازلة تقوّض أي طموح كردي بالحكم الذاتي.
🔻 المخطط الصهيوني-التركي لتقسيم سوريا
مع انهيار الجيش السوري، أصبحت البلاد ساحة لتقاسم النفوذ بين القوى الأجنبية. عزز الكيان الصهيوني وجوده العسكري في الجنوب، واستغل الفراغ الأمني لمصلحته. في الوقت نفسه، سيطرت تركيا ـ بدعم أمريكي ـ على الشمال، وقسّمت فعلياً الأراضي السورية.
لم يكن هذا التقسيم صدفة، بل كان جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحويل سوريا إلى دولة فاشلة تخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية. سعى الكيان الصهيوني إلى إضعاف أي قوة عسكرية أو سياسية تهدد وجوده، فيما عملت تركيا على تحقيق أطماعها التوسعية والقضاء على أي تهديد محتمل من الأكراد.
🔻 دروس لإيران: كيف تحمي نفسها من مصير سوريا؟
ما حدث في سوريا لم يكن استثناءً. العراق، ليبيا، اليمن، والسودان كلها شهدت سيناريوهات مماثلة: عقوبات اقتصادية، تحريض على الفوضى، دعم جماعات متطرفة، وتدمير البنية التحتية. إيران، بصفتها الحلقة المركزية في محور المقاومة، تواجه اليوم تهديدات مشابهة تهدف إلى “سورنة” مصيرها.
لكن إيران تمتلك عوامل تميزها وتحميها من الوقوع في المصير ذاته:
- نظام سياسي شعبي وأيديولوجي: يقوم على مقاومة الهيمنة ويمزج بين الدين والوطنية، مما يمنحه تماسكاً داخلياً قوياً.
- دعم شعبي واسع: رغم التحديات الاقتصادية، يحظى محور المقاومة في إيران بتأييد شعبي كبير، خصوصاً في وجه التهديدات الخارجية.
- قدرات عسكرية متقدمة: تمتلك إيران ترسانة صاروخية قوية وقدرات دفاعية رادعة تجعل أي تدخل عسكري مباشِر مكلفاً للغاية.
- تحالفات إقليمية قوية: علاقاتها مع حزب الله، الحشد الشعبي، وأنصار الله في اليمن تشكّل شبكة مقاومة إقليمية متماسكة.
- نفوذ إقليمي عميق: إيران ليست دولة عادية، بل قوة إقليمية تؤثر في توازنات المنطقة.
دروس سوريا: يجب على الإيرانيين تعزيز الوحدة الوطنية، والتصدي للحرب النفسية والإعلامية، ودعم الاقتصاد المحلي لتقليل الاعتماد على الخارج. كما يجب توطيد التحالفات الإقليمية والدولية مع دول مثل كوريا الشمالية وروسيا والصين، دون الوقوع في التبعية لها، تفادياً لتكرار خيانة الحلفاء التي شهدتها سوريا.
🔻 خلاصة القول
يجب أن يفهم الجميع أن سوريا لم تُدمّر بسبب ديكتاتوريتها أو فشلها الاقتصادي، بل لأنها وقفت بوجه المشروع الصهيوني-الأمريكي. ما جرى لسوريا يمكن أن يتكرر مع أي دولة تختار مقاومة الهيمنة.
الدفاع عن سوريا كان دفاعاً عن إيران وكرامة كل أمة تسعى للحرية. واليوم، حماية إيران تعني الحفاظ على شعلة المقاومة التي أضاءتها دمشق ذات يوم، ومنع تكرار المأساة التي حوّلت حلب ودمشق ومدن سوريا إلى أنقاض. إيران، بشعبها الواعي والصامد، هي الأمل الأخير في منطقة تتكالب عليها قوى الهيمنة.