القسم السياسي

الضغوط الاقتصادية مقابل التطبيع القسري: عندما تتحوّل التعرفة الجمركية إلى جسر لاختراق الكيان الصهيوني في العراق.

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

منذ اللحظة التي أقدمت فيها واشنطن على فرض تعريفات جمركية على البضائع المستوردة من العراق، تبيّنت الأبعاد الحقيقية لهذا القرار: فهو لا يرتبط بحماية المنتجات الأمريكية أو تحقيق توازن في الأسواق، بل يُعدّ جزءًا من منظومة العقوبات المصمّمة لفرض وقائع سياسية وأمنية جديدة على العراق، وقائع تضمن أمن الكيان الصهيوني وتُمهّد الطريق نحو تطبيع قسري. هذا التطبيع يتسلّل عبر شخصيات مثل “إليزابيث تسوركوف” وأمثالها إلى عمق مراكز القرار في العراق.

لكن الخطر لا يتوقف عند هذه الحالة الفردية، بل يتعداها إلى مشروع أوسع لاختراق الموساد للمؤسسات والنسيج الاجتماعي العراقي، مستغلاً الثغرات القانونية والتأثير السياسي في بعض مراكز القرار.

اختراقات الموساد… من أربيل إلى بغداد

ما كشفته قضية الجاسوسة “إليزابيث تسوركوف” لم يكن مفاجئًا لقوى المقاومة، التي تتابع منذ سنوات نشاطات العشرات من العناصر الاستخباراتية الصهيونية داخل العراق، وخصوصًا عبر مناطق الشمال وأربيل، حيث يتم الاختراق تحت غطاء الاستثمار، المنظمات غير الحكومية، أو حتى السياحة الدينية.

خلال السنوات الماضية، تحوّل إقليم كردستان إلى ممر محوري لنشاطات الموساد. وتشير الوثائق المسرّبة والمشاهدات الميدانية إلى إنشاء مراكز تنصّت وتقديم تدريبات تحت عنوان “التعاون الأمني الإقليمي” للعناصر الكردية، بينما الهدف الحقيقي هو تطويق محور المقاومة من البوابة العراقية.

الوجود الاستخباراتي الصهيوني في العراق لم يعد مجرد تقدير أمني، بل أصبح واقعًا موثقًا تظهر آثاره في اختفاء النشطاء، الاغتيالات الغامضة، ومساعي الاختراق الإعلامي والفكري والأكاديمي بهدف الترويج للتطبيع والدعوة إلى “التعايش مع الكيان الصهيوني”.

قانون تجريم التطبيع… بين الإقرار النظري والتعطيل العملي

في عام 2022، أقرّ البرلمان العراقي قانونًا يجرّم كل أشكال التعاون أو التطبيع مع الكيان الصهيوني، ويعدّه خيانة كبرى. لكن هذا القانون، ورغم رمزيته، بقي معطّلاً فعليًا بسبب ثغرات قانونية، أخطرها مادة تم تضمينها عمدًا لإفراغ القانون من مضمونه.

البند المتعلق بـ “السماح بالتبادل في الزيارات الدينية” بين العراق والكيان الصهيوني يُعدّ أخطر تلك الثغرات. فباسم الدين وتحت غطاء زيارة “المراقد والأماكن المقدسة”، تم فتح ممر استخباراتي آمن لعناصر الموساد للتنقل بين جنوب وشمال العراق دون رقابة أو محاسبة.

هذا البند كان حصان طروادة الحقيقي، الذي سمح للمحتل بتمرير شكل ناعم من التطبيع داخل بيئة شيعية يُفترض أنها الأكثر ارتباطًا بقضية فلسطين.

ولا عجب أن بعض الشخصيات النافذة – المحسوبة على طبقة ما بعد الاحتلال – سوّقت لهذا البند على أنه “رسالة تسامح ديني”، بينما هو في الحقيقة بوابة استخباراتية مغلّفة بالقداسة.

بين تسوركوف والتطبيع: مخطط دقيق للابتزاز

التحركات الأمريكية لزيادة الرسوم الجمركية تأتي ضمن هذا السياق، كمحاولة لفرض معادلة جديدة:

إما إطلاق سراح الجاسوسة والتغاضي عن الوجود الصهيوني على أراضيكم،
أو إخضاع اقتصادكم الهش لضغوط قاسية تُجبركم على الخضوع.

يجب كسر هذه المعادلة؛ ليس فقط برفض إطلاق سراح تسوركوف، بل من خلال التطبيق الفعلي والفعّال لقانون تجريم التطبيع، وحذف بند “الزيارات الدينية”، وفتح ملفات الاختراق الصهيوني المتغلغل في الإعلام، السياسة، وحتى الجامعات العراقية.

لا يمكن فصل قضية تسوركوف عن قضايا الصحفيين والنشطاء الذين تبيّن لاحقًا ارتباطهم بمؤسسات مشبوهة ذات صلة بالموساد أو بأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، حيث يعمل هؤلاء على إعداد تقارير عن الحشد الشعبي، فصائل المقاومة، والشخصيات الدينية المؤثرة.

إيران ومحور المقاومة: نحوَ كبح مشروع التغلغل

لا يمكن مواجهة هذا المشروع من دون موقف إقليمي حازم تقوده إيران، التي عايشت بنفسها كيف تُستَخدم العقوبات والعلاقات الناعمة لضرب بنى المقاومة من الداخل.

وعليه، فإنّ المرحلة الراهنة تفرض على محور المقاومة:

  • ممارسة ضغط سياسي على الحكومة العراقية من أجل تنفيذ قانون تجريم التطبيع بصورة شاملة وفعالة.
  • تشكيل لجنة أمنية – قضائية مستقلة للتحقيق في حالات التطبيع الخفي والتغلغل الديني.
  • إغلاق المسارات الدينية التي تستغلها الوفود الصهيونية تحت غطاء “زيارة الأماكن المقدسة”.
  • إفشال أي محاولة لتعديل القانون بما يسمح بـ”التواصل الديني”.

فالتطبيع لم يعد يأتي عبر الاتفاقيات العلنية كما حصل في أنظمة الخليج المتصهينة، بل يتسلل من خلال الثغرات القانونية، والتواطؤ الثقافي، والزيارات المبهمة.

لا تسوركوف بعد اليوم… ولا تطبيع باسم الدين

رفض الإفراج عن جاسوسة ليس كافياً. يجب إغلاق كل المسارات التي مكّنت وجودها. فكل من يدافع عن ثغرات التطبيع الناعم — سواء كان إعلامياً، أكاديمياً، أو سياسياً — إنما يُمكّن العدو من تحويل العراق إلى ساحة آمنة لنشاطاته.

المعركة تبدأ من العراق، لكن صداها سيبلغ كامل محور المقاومة؛ حيث المشروع واحد، والخطر مشترك، والمواجهة يجب أن تكون على مستوى هذا التحدي المصيري.


📄 الملحق الأمني: خريطة تغلغل الموساد في العراق ومسارات التصدي القانوني

أولاً: آليات تغلغل الموساد بعد عام 2003

1. البوابة الكردية

  • منذ 2004، تحولت أربيل والسليمانية إلى ممر دائم لعناصر الموساد، عبر شركات أمنية ومؤسسات تنموية وهمية.
  • أُنشئت قواعد غير رسمية في المناطق الجبلية تحت إشراف شخصيات كردية نافذة.
  • تم توفير تدريبات على التجسس الإلكتروني، اختراق الإنترنت، إدارة الصفحات المزيفة، وتشكيل خلايا تجسس.

2. الغطاء الإعلامي والثقافي

  • منصات إعلامية تدّعي الاستقلال تُبث من بغداد وأربيل، بتمويل أوروبي.
  • الترويج لفكرة “التعايش مع الكيان” و”الحوار الثقافي” بهدف تطبيع العقل العراقي مع الاحتلال.
  • استقطاب كتّاب وأكاديميين لتلميع صورة الكيان والتشكيك بتاريخ فلسطين والمقاومة.

3. التغلغل عبر منظمات غير حكومية

  • عشرات المنظمات العاملة في مجال “حقوق الإنسان” و”تمكين المرأة” تُستخدم كغطاء لعناصر استخبارية غربية وصهيونية.
  • تم تسجيل 11 منظمة عراقية على صلة غير مباشرة بمؤسسات مرتبطة بالموساد عبر وسطاء غربيين.

4. التغلغل الديني

  • منذ 2017، دخلت وفود صهيونية بجوازات مزدوجة (خصوصاً أوروبية) إلى النجف وكربلاء تحت غطاء “زيارة الأماكن المقدسة”.
  • جرى التواصل مع شخصيات دينية غير معروفة لتبرير الزيارات كـ”انفتاح ثقافي”.
  • الأخطر: محاولة شرعنة الوجود الصهيوني عبر روايات مزيفة عن “يهود العراق” و”جذورهم الحضارية”.

ثانياً: شخصيات عراقية مشبوهة

(الأسماء محفوظة لأسباب أمنية ضمن ملفات المؤسسات السيادية)

  • مستشار سابق بوزارة الخارجية، متهم بتنظيم زيارات لوفود صهيونية عبر “مراكز فكر أمريكية”.
  • إعلامي بارز يروّج لفكرة “إسرائيل الواقعية”، انتقل من لندن إلى بغداد بتمويل أوروبي.
  • نائب برلماني شارك في مؤتمر أربيل 2021 الداعي للتطبيع، وله علاقات مالية مع مستثمرين صهاينة.

ثالثاً: ثغرات قانون تجريم التطبيع – تحليل قانوني

أ. المادة الرابعة – البند الثاني
ينصّ على:

“لا تشمل أحكام هذه المادة الزيارات الدينية الحاصلة بموافقة مسبقة من وزارة الداخلية.”

🔴 إشكاليات هذا الاستثناء:

  1. غياب تعريف دقيق لـ”الزيارات الدينية”، والفئات المسموح بها، ونوع الموافقة المطلوبة.
  2. إضافة البند في المراحل الأخيرة من التشريع دون نقاش برلماني كافٍ، ما يثير شبهة ضغوط داخلية أو خارجية.
  3. تناقضه مع روح القانون القائم على تجريم كل أشكال التواصل مع الكيان.
  4. استغلاله كغطاء قانوني لاستضافة شخصيات صهيونية بجوازات أوروبية.

يتماشى هذا الاستثناء مع ما يُعرف بـ”المشروع الإبراهيمي”، الذي يهدف إلى دمج الكيان في المجتمعات العربية عبر “التعايش الديني” كواجهة، مما يشكل تهديداً وجودياً للهوية والسيادة العراقية.

🔺 التوصية:

  • حذف هذا الاستثناء بالكامل وتعزيز القانون لمواجهة التغلغل الناعم عبر المسارات الدينية والثقافية.

ب. غياب آليات تنفيذية

  • لا توجد جهة قضائية مختصة بتلقي شكاوى التطبيع.
  • لا يملك المواطن حق الإبلاغ عن وسائل إعلام أو شخصيات مطبّعة.
  • لا توجد قائمة سوداء بالمشتبهين على المعابر الحدودية.
  • غياب تعريف قانوني واضح للتطبيع الإعلامي أو الثقافي.

رابعاً: المسارات المقترحة لاحتواء تغلغل الموساد

أ. إصلاح قانون تجريم التطبيع

  • حذف استثناء “الزيارات الدينية” فوراً.
  • تجريم التبرير الإعلامي والثقافي للتطبيع.
  • تشكيل هيئة قضائية متخصصة بمكافحة التطبيع والتغلغل الصهيوني.

ب. إجراءات عاجلة

  • إغلاق جميع المنظمات ذات التمويل الخارجي غير الشفاف.
  • إنشاء وحدة استخبارات في الحشد الشعبي لمتابعة ملفات التغلغل الصهيوني.
  • تعاون أمني وثيق مع صنعاء، إيران، وحزب الله لتبادل المعلومات.

ج. تعبئة الوعي العام

  • إطلاق حملة وطنية تحت شعار:
    “العراق لا يطبّع… العراق لا يُخترق.”
  • تجريم المنصات الإعلامية المبرّرة للتطبيع.
  • تفعيل المدارس، الحسينيات، والجامعات كمراكز مقاومة فكرية وسيادية.

خلاصة استراتيجية

العراق لا يواجه فقط جاسوسة تطالب واشنطن بإطلاق سراحها، بل مشروعاً متكاملاً لاختراق الوعي، والحدود، والسيادة.
هذا المشروع يبدأ من أربيل، يمرّ عبر النجف وكربلاء، وقد ينتهي بتحويل بغداد إلى ساحة مفتوحة للاحتلال.

كبح المشروع يبدأ بتفكيك أدواته الناعمة، لا فقط بمواجهة مظاهره الصلبة.

الخطوة الأولى: لا للتطبيع… لا للزيارات الدينية المشبوهة… لا للثغرات القانونية… ولا لتسوركوف بعد اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى