الجوع في غزّة: إبادة جماعية تدريجية بختم “صُنع في ألمانيا”

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
الجوع في غزّة ليس ظاهرة طبيعية، ولا نتيجة جانبية غير مقصودة للحرب، بل جزء من استراتيجية مدروسة لإبادة شعب بالتقسيط، لا لذنب ارتكبوه سوى ثباتهم في وجه الاحتلال والاستعمار. وفي خضمّ هذا المشهد المأساوي، تتحوّل ألمانيا إلى فاعل مركزي، لا كمراقب محايد، بل كواحدة من أبرز الداعمين العسكريين والدبلوماسيين للكيان اللقيط قاتل الأطفال. ولم تعد صفة “صنع في ألمانيا” على القنابل التي تهدم بيوت الغزيّين تشير إلى جودة الصناعة، بل إلى بصمة مشاركة مباشرة في قتل الأطفال الجائعين.
تحتلّ ألمانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة كأكبر مموّل عسكري لهذا الكيان المجرم. فبحسب التقارير، تضاعفت تصاريح تصدير الأسلحة الألمانية للكيان الصهيوني في عام 2023 مقارنة بالعام الذي سبقه، وذلك رغم تحذيرات عشرات المنظمات الحقوقية من استخدام هذه الأسلحة مباشرة في قتل المدنيين وتنفيذ سياسة التجويع. هذه السياسة، التي باتت تُصنّفها منظمات الأمم المتحدة تحت عنوان “الجوع الكارثي”، تجري أمام أعين الجميع. فهل تملك وزارة الاقتصاد الألمانية جوابًا للأطفال الذين يموتون من سوء التغذية؟ هل بات الجوع من أدوات “الأمن القومي الإسرائيلي” في نظر برلين؟
يظهر التناقض السافر في السلوك السياسي لألمانيا الفدرالية: من جهة، تدّعي التزامها بميثاق حقوق الإنسان والقانون الدولي، ومن جهة أخرى، تدعم دون خجل نظامًا حوّل الحصار والتجويع إلى سلاح عسكري. مشاهد التظاهرات الضخمة في المدن الألمانية، ورسائل الاحتجاج التي وقعها مئات الدبلوماسيين، وضغوط القوى اليسارية والمناهضة للحرب، كلّها تعكس صحوة ضمير تتصاعد في مجتمع لطالما برّر دعمه لهذا الكيان باسم عقدة الذنب التاريخية. لكنّ جيل الشباب في ألمانيا بدأ يطرح السؤال المؤلم: هل يصبح دعم الجرائم مبرّرًا إن جاء تحت عنوان “المسؤولية التاريخية”؟
حتى داخل التحالف الحاكم، بدأت تظهر الشقوق. فنوّاب من حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي دعوا إلى تعليق اتفاقات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني. أما في وزارة الخارجية، فقد ظهرت حركة احتجاج داخلية غير مسبوقة تطالب بإعادة النظر جذريًا في علاقة برلين مع هذا الكيان. هذه الديناميكية تعكس تحوّلًا تدريجيًا في الخطاب الرسمي، وانهيار الهالة المقدّسة التي أحاطت لسنوات بشعار “أمن إسرائيل من أولويات الدولة”.
الصمت الرسمي الألماني حيال المأساة الإنسانية في غزّة يتناقض بشكل صارخ مع مواقفها من أزمات أخرى. الدولة نفسها التي تتحدّث في أوكرانيا عن “الدفاع غير المشروط عن المدنيين”، تلتزم الصمت — بل تشارك فعليًا — في تجويع شعبٍ بأكمله في غزّة. هذا الكيل بمكيالين، الذي بات مكشوفًا بشكل فاضح، أسقط أوراق التوت عن سياسة خارجية ألمانية متلونة، وأفقدها الكثير من شرعيتها خاصة في أعين شعوب الجنوب العالمي.
من جهة أخرى، تشكّل تبعية الكيان الصهيوني للتكنولوجيا والتجهيزات العسكرية الألمانية فرصة استراتيجية لبرلين إن أرادت استخدام نفوذها لوقف المجازر. وقد دعا المحلل الألماني يانيس هگمان، وغيره من الأصوات الحرة، إلى وقف فوري لتصدير الأسلحة حتى يتم رفع الحصار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
ما يجري في غزّة هو إبادة جماعية بأسلوب التجويع البطيء، وكلّ من يمدّ هذا النظام بالسلاح، إنما يشارك مباشرة في تنفيذ هذه الجريمة. ألمانيا اليوم أمام امتحان تأريخيّ: إمّا أن تكون طرفًا فاعلًا في وقف المجازر، أو شريكًا صامتًا — ومُدانًا — في واحدة من أبشع جرائم العصر.