القسم السياسي

قانون الحشد الشعبي في العراق: اختبار للسيادة

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

في لحظة مصيرية وحساسة بالنسبة للعراق، عاد ملف “قانون الحشد الشعبي” مرة أخرى إلى صدارة التحولات السياسية، وأصبح معيارًا حاسمًا لقياس مدى استقلال القرار الوطني وحدود النفوذ الأمريكي في مسار التشريع السيادي للبلاد.

في حين يرى الكثير من العراقيين أن هذا القانون هو تجلٍّ لعرفان الجميل لتضحيات آلاف المقاتلين الذين أنقذوا البلاد من السقوط، تسعى الولايات المتحدة إلى عرقلة هذا المسار عبر الطرق الدبلوماسية وأدوات الضغط، بحجة القلق من نفوذ إيران و”الفصائل المسلحة غير القانونية”؛ وهو توصيف يتكرر دائمًا في أدبيات واشنطن.


اللقاء الأمريكي – العراقي تحت ظل التحذير

في هذا السياق، جاءت لقاءات القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في بغداد مع عدد من المسؤولين العراقيين، من بينهم محسن المندلاوي النائب الأول لرئيس البرلمان، حاملةً رسائل تحذيرية. لم يكن هذا اللقاء بروتوكوليًا بقدر ما اتّسم بنبرة تهديد مبطّنة. حيث أعرب المسؤول الأمريكي خلال هذا اللقاء عن “استياء واشنطن الشديد” من استمرار المسار التشريعي لقانون الحشد الشعبي في البرلمان العراقي، محذرًا من أن هذا الإجراء “سيؤثر سلبًا وبشكل كبير” على العلاقات بين بغداد وواشنطن، خصوصًا في ملفات التعاون الاقتصادي والأمني.

لكن المندلاوي أكد بشكل صريح أن هذا القانون شأن داخلي عراقي خالص، ولا يُملى من الخارج، وأضاف: “من دافع عن العراق لا ينبغي أن يُقصى أو يُتجاهل، بل يجب تكريمه بالأدوات القانونية والسياسية.”


مسودة القانون: إثبات هوية المقاتلين، لا المرتزقة

الهدف من إقرار هذا القانون هو تنظيم أنشطة هيئة الحشد الشعبي، وتوفير إطار قانوني شامل لها، بما في ذلك ضمان حقوق المنتسبين في مجالات الخدمة، والتقاعد، والتسليح، والتمويل، أسوة بباقي القوات النظامية في البلاد.

وهذا التوجه طبيعي تمامًا، إذ إن الحشد الشعبي ليس ميليشيا مسلحة، بل مؤسسة رسمية تم ضمّها إلى هيكل الدولة بقرار من البرلمان عام 2016، ولعبت دورًا أساسيًا في تحرير أكثر من ثلث الأراضي العراقية من احتلال داعش، في وقت تخلى فيه العالم فعليًا عن نجدة العراق.

وأكد فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي، أن هذا القانون “ليس هدية أو امتيازًا خاصًا، بل اعتراف مستحق بتضحيات من دخلوا ميدان المعركة بروح الجهاد والروح الوطنية، لا طمعًا في أجر أو مكاسب.”

وأضاف: “الحشد الشعبي لم يقاتل من أجل الرواتب والمزايا، بل من أجل الدفاع عن الوجود والسيادة. هذه هي ميزتنا، هذه هي هويتنا.”

كما أوضح الفياض أن الهدف من القانون ليس تفضيل الحشد على الجيش والشرطة، بل التأكيد على “الطبيعة الخاصة للحشد؛ كونه مؤسسة تطوعية خرجت من رحم معاناة الشعب العراقي ونداء المرجعية الدينية العليا، ويجب الحفاظ عليه كرمز يتجاوز السياسة والطائفة والحزب.”


الاعتراضات الأمريكية: قلق مشروع أم تدخل سافر؟

لم تقتصر المعارضة الأمريكية لهذا القانون على الجانب الدبلوماسي في بغداد. فقد أعرب وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عن قلقه من تبعات هذا القانون، محذرًا من أن القانون “يعزز النفوذ الإيراني في المؤسسات العسكرية العراقية ويوفر غطاءً قانونيًا للفصائل المسلحة.”

لكن هذا الموقف الأمريكي لا ينبع من “قلق مشروع” بل من خشية حقيقية تجاه استقلال القرار العسكري العراقي؛ خصوصًا في ظل إصرار بغداد المتزايد على مواجهة الضغوط بشأن دمج الحشد ضمن هياكل بيروقراطية تفتقر للهوية المقاومة، ورفضها تحويله إلى كيان تابع لإرادة السفارات.


الحشد الشعبي: حصن السيادة

في ظل هذا الوضع الذي أصبحت فيه التدخلات الأمريكية مكشوفة وصريحة، لم يعد قانون الحشد مجرد أمر إداري، بل أصبح معركة رمزية لاختبار مدى سيادة العراق؛ معركة تُختبر فيها الدولة: هل تستطيع أن تتخذ قرارًا مستقلًا أم ستظل خاضعة للضغوط الخارجية؟

الحشد الشعبي “درع الأمة في كل معركة ومواجهة”، ولا يمكن اختزاله إلى تصنيفات تفتيتية.

ولا حاجة للقول إن الحشد الشعبي ليس ظاهرة عابرة أو خارج معادلة العراق، بل من بيجي وتلعفر والموصل إلى الحدود الغربية، كان دائمًا جزءًا من منظومة الدفاع الوطني. ولم يكن وجوده تهديدًا للدولة، بل ضمانًا لبقائها في أحلك اللحظات.


بين القانون والسيادة: الكلمة الأخيرة للعراق

وضعت مسودة قانون الحشد الشعبي العراق أمام مفترق طرق مصيري: إما أن يستجيب لنداء أبنائه المقاتلين الذين دافعوا عن الأرض والشعب، أو أن يخضع مرة أخرى لضغوط تسعى لإعادة تعريف هوية المؤسسة العسكرية بما يتماشى مع مصالح خارجية.

وبغضّ النظر عن الاعتراضات، يملك العراق – كدولة مستقلة – الحق في سنّ قانون عادل يكرّم تضحيات أبنائه، وينظّم مهام الحشد ويعترف بمكانته كمؤسسة.

إن بناء عراق اليوم لا يمكن أن يتم بحياد بين الجلاد والضحية، بل بالوفاء لمن بذلوا دماءهم من أجل بقاء الوطن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى