القسم السياسي

زيارة الأربعين: بين إرث التأريخ وروح المقاومة المعاصرة

✍️ حوراء المصري:

 

على امتداد التأريخ، بقيت أرض كربلاء شاهدة على أعظم واقعة دامية في سنة 61 هـ، حيث تجسّد الصراع الأبدي بين “الحق” و”الباطل”. الحق الذي حمل رايته سبط رسول الله، الإمام الحسين بن علي عليه السلام، والباطل الذي مثّله الحكم الأموي بقيادة يزيد بن معاوية. هذه الواقعة لم تكن أبداً صراعًا على السلطة أو الحكم كما يحاول البعض تصويرها ، فقد كانت معركة جوهرية بين قيم الحق والعدل، وقيم الظلم والطغيان.

بعد أربعين يومًا من الفاجعة، في 20 صفر من نفس السنة، قام الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري بأول زيارة لقبر الإمام الحسين عليه السلام، حيث مشى حافي القدمين باكيًا، وهو يردد بصوت مملوء بالحزن والوفاء: “حبيب لا يجيب حبيبه!”، معلنًا بذلك بداية إرث روحي وإنساني عاش عبر القرون. رغم القمع والتضييقات التي تعرضت لها هذه الزيارة في عهد الدولة الأموية و ما تلاها من الحكم العباسي الدموي، فإنها لم تنقطع أبدًا، بل تحولت إلى شعيرة سرية ومقدسة، حتى أصبحت في زمننا الحالي حدثًا عالميًا يجمع ملايين الزائرين من مختلف أنحاء العالم.

 

زيارة الأربعين قد يراها البعض طقسًا دينيًا أو مناسبة اجتماعية، لكنها في الواقع انتفاضة فكرية وسياسية، تعكس عمق الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل. فالزيارة تذكر الأمة أن كربلاء وإن كانت معركة دم،  فهي رسالة مبدئية راسخة رفضت الانحراف عن القيم الإسلامية والإنسانية، ورسخت مبادئ العدالة، والحرية، والكرامة.

 

في زمننا المعاصر، تكتسب زيارة الأربعين أهمية خاصة كرمز روحي وسياسي في وجه الطغيان والاحتلال والهيمنة الخارجية. فهي رسالة واضحة لمن يحاولون السيطرة على الأمة، مفادها أن هذا الشعب متحد على مبدأ الحق، وأن المقاومة ليست مجرد خيار سياسي، بل هي نهج حياة ينبع من العقيدة والإيمان. في هذه الزيارة لا يحمل الزائرون السلاح، لكن كلمتهم ومظاهر وفائهم هي السلاح الذي يرهب الطامعين والمعتدين.

 

المقاومة في ساحات القتال تستمد قوتها وعزيمتها من هذه المسيرة المليونية التي تجسد ولاءً لا ينكسر. داخل الخنادق، بعد معارك طاحنة مع الاحتلال، يبتسم المقاومون عندما يسمعون عن زحف مواكب الزائرين إلى كربلاء، لأنهم يرون في هذا المشهد تعبيرًا حيًا عن قوة الروح التي تدعم صمودهم، وتذكرهم بمآثر الإمام الحسين عليه السلام، وصبره العظيم على الظلم والطغيان.

تلك الملايين التي تمشي آلاف الأميال من أقصى بقاع الأرض لا تُجسد فقط مسيرة حج روحي، بل هي صرخة حية بأن الحق باقٍ ما بقي من يذكر الحسين، وأن إرثه هو منبع الإصرار على رفض الظلم مهما كانت التضحيات. في كل خطوة يخطوها الزائرون، يُبعث الأمل ويتجدّد العزم في قلوب المقاومين، الذين يقفون صامدين في وجه أعتى أنواع العدوان.

كيف لمقاوم أن يستسلم أو ينهزم وهو يرى هذا المشهد الملهم؟ كيف يمكن أن تُكسر أمة تمشي من أجل قضية الحق والعدل، مستلهمة من سيرة الحسين عليه السلام دروس الصبر والتضحية؟

 

زيارة الأربعين إذًا هي ليست ذكرى أو طقس ديني يستنفد أغراضه بانتهاء وقته ، وإنما هي منصة ثقافية وسياسية تعزز الوعي المقاوم، وتوحد صفوف الأمة في وجه الاستعمار والهيمنة. إنها رمز حي للثبات في وجه الظلم، ودليل على أن الروح المعنوية يمكن أن تكون أعظم سلاح في معركة الحرية والكرامة.

 

وفي زمن تتزايد فيه التحديات السياسية والاقتصادية، تظل هذه الزيارة رسالة نضال وتضحية متجددة، تحث الأفراد والجماعات على التمسك بالمبادئ والقيم التي ضحى من أجلها الحسين عليه السلام وأصحابه، لتبقى الشعلة مضيئة في ظلمة الظلم والاحتلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى