القسم السياسي

غزة… المدينة التي تفضح زمن الخيانة وتكتب آخر فصول الكرامة

✍️ حوراء المصري:

 

الليل ثقيل في غزة. لا أنوار في الشوارع، ولا أصوات سوى همهمة الطائرات الحربية فوق المدينة، متبوعة بانفجارات تهز الأرض كأنها الزلازل. في أحد أزقة مخيم الشاطئ، يجلس طفل في التاسعة، يضم دميته الممزقة إلى صدره، وعيناه معلقتان بجدار من الحجارة المهدمة حيث كان بيته قبل أيام. على بعد أمتار، تحاول امرأة جمع بقايا الخبز من بين الغبار، بينما أصوات المسعفين تنادي: “هل من أحد حيّ هنا؟”. هذا المشهد يتكرر كل يوم، منذ بدأت حرب الإبادة على غزة، وكأن الزمن توقف عند لحظة الانفجار الأول.

غزة، هذه البقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً، تحولت منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى مسرح مفتوح للجريمة. الطائرات الإسرائيلية لا تفرق بين منزل ومدرسة، بين مسجد ومستشفى، بين طفل ومقاتل. الهدف واحد: سحق الحياة نفسها. أكثر من سبعين بالمئة من البنية التحتية للقطاع دُمّرت، مئات آلاف النازحين يفترشون الشوارع والملاجئ المؤقتة، والماء النظيف صار أغلى من الذهب، فيما الوقود والدواء ممنوعان بقرار سياسي دولي.

لكن غزة ليست مجرد مدينة تحت القصف؛ هي عنوان لمعركة أوسع، معركة بين إرادة الحرية ومشروع الاستعمار، بين شعب أعزل وأحد أكثر الجيوش تسليحاً في العالم.

شركاء في الجريمة

ليس الاحتلال وحده من يحاصر غزة. واشنطن اليوم ليست فقط الداعم السياسي والعسكري للكيان الصهيوني، بل شريك مباشر في الدم. قنابلها المحرمة دولياً تسقط على البيوت، وحق النقض الأمريكي في مجلس الأمن يحمي القاتل من أي مساءلة.

العار الأكبر أن الجدار المحيط بغزة ليس كله من إسمنت وأسلاك شائكة؛ جزء منه عربي، من أنظمة قررت أن بوصلتها نحو التطبيع، لا نحو القدس. معابر مغلقة، إمدادات إنسانية محجوبة، وبيانات رسمية باردة لا تذكر غزة إلا بخجل، وكأنها عبء سياسي، لا قضية شرف وكرامة.

التأريخ يعيد نفسه

ما يحدث في غزة اليوم ليس معزولاً عن التاريخ. فالمجازر الصهيونية من دير ياسين عام 1948، إلى صبرا وشاتيلا عام 1982، وصولاً إلى جنين وغزة اليوم، كلها فصول من كتاب واحد: كتاب الاغتصاب الاستعماري للأرض والإنسان. لكن غزة تختلف عن كل تلك المحطات، لأنها المدينة التي لم تسقط رغم حصار دام أكثر من 17 عاماً، ورغم الحروب المتكررة التي أريد لها أن تكسر إرادة أهلها.

هذا الصمود يذكرنا بكربلاء الحسين عليه السلام، حيث حوصر الحق في مساحة صغيرة، بلا ماء ولا مدد، لكن صرخته بقيت تهز التاريخ حتى اليوم: “هيهات منا الذلة”. غزة اليوم هي الامتداد الحي لذلك الموقف، تقف بصدور عارية أمام جيش مدجج، وتقول للعالم: لن نركع.

المقاومة… قلب غزة النابض

قد يحاول الإعلام الغربي أن يصور المقاومة الفلسطينية على أنها مشكلة، لكن الحقيقة أن المقاومة هي السبب الوحيد لوجود غزة حتى اليوم. من دونها، لكانت الخريطة السياسية تغيّرت، ولكانت إسرائيل تمددت إلى ما بعد القطاع بسنوات طويلة.

المقاومة في غزة ليست فقط بندقية، بل هي ثقافة وحياة. هي الأم التي تودع ابنها الشهيد بفخر، وهي الطفل الذي يتعلم أسماء القرى المهجرة قبل أن يتعلم جدول الضرب، وهي الشاب الذي يزرع شجرة زيتون في ركام بيته، لأنه يؤمن أن الأرض ستعود خضراء يوماً ما.

المأساة الإنسانية… والفضيحة العالمية

أرقام الضحايا في غزة ليست إحصائيات جافة؛ هي وجوه وأسماء وذكريات. أكثر من نصف الشهداء من الأطفال والنساء، وآلاف الجرحى ينتظرون العلاج في مستشفيات بلا أجهزة أو أدوية. ومع ذلك، يصر الاحتلال على استهداف فرق الإسعاف، ومراكز الإغاثة، وحتى قوافل الأمم المتحدة.

المجتمع الدولي يقف متفرجاً، وكأن القوانين التي صيغت بعد الحرب العالمية الثانية، لحماية المدنيين، لا تنطبق على الفلسطينيين. هذه الازدواجية في المعايير ليست مجرد نفاق سياسي، بل هي إعلان موت الضمير الإنساني.

غزة… سؤال في وجه العالم

اليوم، غزة ليست قضية فلسطينية فقط، بل قضية كونية. هي اختبار للإنسانية جمعاء: كيف يمكن لعالم يدّعي الحضارة أن يسمح بإبادة شعب أمام الكاميرات؟ كيف يمكن أن نتحدث عن القانون الدولي ونحن نرى الاحتلال يقصف المستشفيات ويهدم البيوت فوق ساكنيها؟

والأهم، كيف يمكن أن تُكسر أمة، يسير مئات الآلاف من أبنائها في مسيرات العودة، ويقطع الملايين من المسلمين في العالم المسافات دعماً لها، وهي التي تعلّمهم معنى الصمود؟

رسالة غزة

رغم كل شيء، غزة ما زالت واقفة. من تحت الركام، تخرج أصوات الأطفال بالضحك أحياناً، والأمهات بالزغاريد أحياناً أخرى. في كل بيت شهيد، يولد حلم جديد بالحرية.

غزة تقول للعالم: قد تهدمون البيوت، لكنكم لا تستطيعون هدم إرادتنا. قد تحاصروننا بالماء والكهرباء، لكنكم لا تستطيعون محاصرة الشمس. نحن هنا، وسنبقى، حتى يرفع آخر طفل فلسطيني علمه فوق أسوار القدس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى