القسم السياسي

إيران ولبنان… بين خطاب الواقعية وازدواجية المعايير

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

زيارة أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى بيروت في 13 أغسطس 2025،  أبرزت تصريحات من بعض الشخصيات السياسية اللبنانية تنتقد المواقف الإيرانية، معتبرة إياها تدخلاً في الشؤون الداخلية. غير أن تحليلاً موضوعياً ومدروساً للواقع يُظهر أن هذه الانتقادات تفتقر إلى الأساس المنطقي، وتكشف عن ازدواجية في المعايير. فإيران، كجزء أصيل من محور المقاومة، قدمت دعماً تأريخياً للبنان في مواجهة الاعتداءات الصهيونية، بينما تُعامل الضغوط الأمريكية والسعودية كـ”نصائح صديقة”. 

هذه التصريحات بنداً بنداً، تتحطم أوهامها بالحقائق والوقائع التأريخية والحديثة.

أولاً: لغة إيران… والألسنة السامة الأخرى

يُدعى أن “اللغة التي سمعها لبنان من بعض المسؤولين الإيرانيين غير مساعدة”، كما أعرب عن ذلك الرئيس جوزيف عون خلال لقائه بلاريجاني، معتبراً تصريحات إيران بشأن دعم حزب الله تدخلاً في الشؤون الداخلية. لكن المقارنة النزيهة تكشف زيف هذا الادعاء. فاللغة الإيرانية كانت دائماً تعبيراً عن الدعم والتعاون، مثل تأكيد وزير الخارجية عباس عراقجي على دعم حزب الله في قراراته الدفاعية، دون فرض شروط أو تهديدات مباشرة. في المقابل، شهد لبنان إهانات صريحة من المسؤولين الأمريكيين والسعوديين. على سبيل المثال، حذر المبعوث الأمريكي توماس براك في يوليو 2025 من أن لبنان يواجه “تهديداً وجودياً” إذا لم ينزع سلاح حزب الله، محولاً لبنان إلى مجرد ساحة للضغوط الخارجية. 

 أما السعودية، فقد وصفت تصريحات وزير لبناني سابق جورج قرداحي بـ”الإهانة” في 2021، مما أدى إلى طرد السفير اللبناني وفرض عقوبات اقتصادية، في إملاء واضح على سيادة لبنان. هذه الازدواجية تجعل الانتقاد لإيران يبدو انتقائياً، يخفي تبعية لبعض الأطراف للواشنطن والرياض.

ثانياً: الصداقة مع كل لبنان… من يرفضها حقاً؟

يُزعم أن إيران تحصر علاقاتها بطائفة واحدة، كما أكد عون في حديثه مع لاريجاني، مطالبًا بعلاقات مع “كل اللبنانيين لا طائفة واحدة”. لكن الواقع يثبت عكس ذلك؛ إيران عرضت مراراً تعاوناً شاملاً مع الدولة اللبنانية، مثل مساعداتها في مجالات الطاقة والإعمار دون تمييز طائفي، كما في تعهداتها بدعم الاقتصاد اللبناني خلال الأزمات. الرفض الحقيقي يأتي من الفريق السياسي المتحالف مع واشنطن والرياض، الذي يعيق أي انفتاح على طهران إلا بشرط الخضوع لشروط خارجية، مثل تلك المتعلقة بنزع سلاح المقاومة. تأريخياً، رفضت إيران الحصرية، بل ساهمت في بناء المقاومة كقوة وطنية تحمي الجميع، بينما يستمر الآخرون في تقسيم لبنان عبر دعم فئوي يخدم أجندات إقليمية.

ثالثاً: الدولة وحماية المكونات… غياب لا لبس فيه

يُكرر أن “الدولة اللبنانية مسؤولة عن حماية جميع المكونات”، كما في تصريحات رئيس الوزراء نواف سلام خلال لقائه بلاريجاني، رافضاً أي حمل سلاح خارج الدولة. هذا القول جميل نظرياً، لكنه يتناقض مع الواقع التأريخي. الجنوب اللبناني تعرض لاعتداءات متكررة من الكيان الصهيوني منذ السبعينيات، ولم تقم الدولة بحمايته بشكل فعال، مما أدى إلى احتلال دام عقوداً. من ملأ هذا الفراغ؟ المقاومة، مدعومة من إيران، التي حررت الأرض في 2000 وواجهت عدوان 2006. اليوم، مع الضغوط لنزع سلاح حزب الله، يبدو أن هذه التصريحات تخدم أجندة {إسرائيلية} ، حيث حذر دبلوماسيون غربيون من تصعيد {إسرائيلي} إذا تأخر نزع السلاح. إيران، عبر دعمها للمقاومة، تحمي كل المكونات فعلياً، لا بالكلام فحسب.

رابعاً: رفض التدخلات… شعار انتقائي

المفارقة الكبرى في رفع شعار “رفض التدخل في الشؤون الداخلية”، كما في بيان وزارة الخارجية اللبنانية التي وصفت تصريحات عراقجي بـ”التدخل الفاضح”. هذا الشعار يُطبق انتقائياً؛ فالتدخل الأمريكي، مثل خطة إعادة الإعمار المشروطة بنزع سلاح حزب الله، يُعتبر “دعماً”، كما في الاجتماعات بين الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا وقطر في 2025. 15 أما الدعم الإيراني للمقاومة، فيُصور كجريمة. هذه الانتقائية تفضح أن المشكلة ليست التدخل، بل هوية المتدخل: إيران، الداعمة للمقاومة ضد الاحتلال، مقابل أمريكا والسعودية اللتين فرضتا عقوبات وعزلة على لبنان لأسباب سياسية، كما في أزمة 2021 بعد تصريحات قرداحي.

خامساً: السلاح والاستقواء بالخارج… من هو المستقوي؟

يُتهم حزب الله بالاستقواء بالخارج، كما في تصريحات عون التي تؤكد أن “لا جماعة تحمل سلاحاً أو تستقوي بالخارج”. لكن الوقائع تثبت أن سلاح المقاومة دفاعي بحت، واجه الاحتلال ومنع تكراره، مدعوماً من إيران كشريك في محور المقاومة. في المقابل، استقوت أطراف لبنانية أخرى بالعدو والأمريكيين، مثل التحالفات التأريخية مع الكيان الصهيوني في الثمانينيات، أو الضغوط السعودية التي اقترحت غزواً عربياً للبنان في 2008 وفق ويكيليكس. الاستقواء الحقيقي هو الذي يخدم العدو، لا الذي يحمي الوطن.

سادساً: الاعتداءات لا التحديات

أخيراً، يُتحدث عن “تحديات” ما يسمى بـ إسرائيل، كما في سياق التصريحات اللبنانية التي تركز على نزع السلاح دون الإشارة إلى الاعتداءات. هذا التجاهل يتناقض مع الواقع: قوات الإحتلال  دمرت وقتلت واحتلت، كما في عدوان 1982 و2006، وتهدد اليوم بتصعيد إذا لم يُنزع سلاح حزب الله. مواقف بعض الأطراف اللبنانية، التي تكتفي ببيانات باهتة أمام العدوان على الجنوب، تكشف أنها لا تعتبر هذه الاعتداءات شأناً وطنياً، بل تخدم أجندة تُضعف المقاومة. إيران ومحورها يرون في ذلك اعتداءً يتطلب مقاومة، لا تفاوضاً.

إيران ومحور المقاومة أثبتوا التزامهم بالدفاع عن لبنان أرضاً وشعباً، بالدم والروح، بينما يستمر آخرون في شعارات سيادية فارغة وانتقائية تخدم الخصوم. رحم الله امرئًا عرف قدر نفسه، وليعرف بعضهم أن قدرهم لن يعلو على من دفع ثمن الكرامة والسيادة الحقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى