القسم السياسي
زيارة الأربعين والمحور الحسيني: حين يعطي النصر قيادته لمستحقيه

مجاهد الصریمی، صنعاء:
لقد آن الأوان لمغادرة التعاطي السلبي مع المعركة، ويفرض علينا واجبنا اليوم ألا نستهين بالنموذج المقاوم المهيمن على زماننا، فلا نعتبر الجوانب الروحية بلا وزن في معادلة ما تحقق.
إن جزءًا من شهادة الحاضر على الماضي يتجه نحو طبيعة العرفان المقاوم، فقد حاربنا قبل هذا اليوم بالخيال ولم نحارب بالروح، بأحلام اليقظة وليس بالوعي الكامل، بشيء من المعرفة وليس بالعرفان، برمزية الجغرافيا وليس بحقيقة المكان الروحي.
لقد قاتلنا خلال كل حروبنا الحديثة بالطريقة التي قاتل بها كل المقاتلين، حتى إننا استلهمنا فهمهم وطريقتهم وآفاقهم في القتال، غير أننا لم نقاتل بطريقتنا الخاصة إلا هذه المرة.
كل ما بدا من تدبير الإعداد التقني عوارض لا تحجب الروح الوثّابة للجوهر النقي للوجود المقاوم، فحاضرنا شاهد على ماضينا، ووجودنا الحاضر أشرف من الماضي.
إن زيارة الأربعين ليست محطة زمنية فحسب، بل هي البوابة التي يمكننا من خلالها الدخول إلى الزمن كله، وليست شعيرة دينية فقط، بل مدرسة متكاملة تتجه إلى إعادة الاعتبار للفكر والثقافة. فمتى ما تمت تنقية الأفكار وتطهيرها من الرواسب والمواد النتنة، وتجفيف منابع الثقافات المغلوطة، وإعادة الاعتبار لكل ما هو حق، بتصحيح المفاهيم وتصويب النظرة، وتعزيز الوعي، وخلق الدوافع الباعثة على وجود النباهة التي تجعل كل فرد يرى نفسه معنيًا بكل من حوله، ومطالبًا باتخاذ موقف إزاء كل ما يجري من أمور، سواء أكان ذلك مقتصرًا على وطنه وأمته، أم ممتدًا أبعد من ذلك بحيث يشمل المستضعفين في كل أقطار الدنيا، سنضمن الحصول على حريتنا واستقلالنا، لأنهما متأصلان في نفوسنا ومتجذران في أعماقنا.
إن مذابح وجرائم الصهيونية والاستكبار في غزة، ومحاولاتهما القضاء على قوى المحور، لن تبعدهما عن حتمية الدخول في الهزيمة الساحقة، مهما اتسعت دوائر مكرهما من لبنان إلى العراق فاليمن، لا سيما بعد الصفعات القاصمة التي تلقاها هذا الثنائي الشيطاني على يد رجال الله في الجمهورية الإسلامية في إيران، خلال الصمود العلوي بوجه الكيان المجرم.
أما غزة، وكل ما نراه من مظاهر الحرق والتدمير والتجويع هناك، برغم بشاعته ووحشيته، فإنه سيكون مدخلاً لبناء الإنسان الذي ستكون حركته في الحياة قائمة على الإرادة والرغبة والتصميم في تحقيق أهدافه على مستوى الوجود والمصير. وهي أهداف نابعة من داخل كيانه، تتفاعل معها وتنفعل بها كل ذرة من الذرات المشكلة لعناصر ذاته، فهو مستعد على الدوام للفناء في سبيل ما يريد تحقيقه، ولا يجد في نفسه رغبة في التراجع أو التوقف عند نقطة معينة، مهما كانت الظروف، وأيًا كان مستوى التحديات وحجم الأخطار.
من هنا ندرك لماذا يعيش المنافقون والتكفيريون وبقايا فلول العمالة هذه الحالة من الخوف والرعب من كل ما هو حسيني؟! وعطفًا على ما تقدم نقول: إن الصراع بيننا وبينهم هو صراع على الإنسان كإنسان، وما الصراع على الأرض والتحرك في كل ميادين المعركة إلا مظهر من مظاهر هذا الصراع.
إن الكيان المجرم اللقيط المختفي خلف النار والبارود الذي بحوزته، لن يستطيع بالقتل بكل أشكاله، والهدم والتجريف بكل صوره، أن يقتلع المجاهدين والصامدين في الشعبين اللبناني والفلسطيني، ولن يتمكن كذلك من بلوغ مراده في بقية ساحات وقلاع محور المقاومة، ولن يتمكن من فرض العبودية والاستسلام على آخر قلاع الشرف والعزة والكرامة من عراق الحسين، وإيران الولاية، ويمن الأنصار. وغدًا ستشرق شمس الحرية والحق والعدالة في العالمين، هذه الشمس لا سماء لها سوى غزة السنوار، وجنوب الغالبون، وحزب الله وديعة نصر الله.
وهكذا يأتي اليوم الذي يصحو فيه الكيان اللقيط ليجد نفسه محاطًا بإنسان ما بعد الطوفان، الذي سيخرج من تحت الركام، وينهض من بين الدماء والأشلاء، ليقتلع نبتة صهيون الخبيثة من كل فلسطين. وهو إنسان سلاحه الحق، وهدفه العدل، ومنطلقه في سبيل الله، لا يعطي بيده عطاء الذليل، ولا يقر إقرار العبيد. إن عاش انتصر، وإن نازل الموت أحيا بدمه جيلاً بل أمة من المجاهدين والشهداء.
ولكي لا ننسى، وكي لا ننسى ما ينتج عن التزام خط الجهاد والشهادة، يجب النظر إلى تيار الحق عبر التاريخ، لنعرف كيف كان اقتدار المستضعفين على صنع المستقبل. والواقع، كي لا ننسى كيف تغلب إبراهيم على النمرود، وموسى على فرعون، وعيسى على سماسرة الهيكل، ومحمد على الجاهلية، والحسين على موت الضمير وقتلة الأحرار، والخميني على ملك الملوك، والمقاومة على أخطر قوة عدوانية في المنطقة.
إننا في هذه الأيام كنا ولا نزال نصنع بالرجال الذين أعاروا الله جماجمهم، وبحفاة الشعب الفلسطيني واللبناني الذين ثبتوا في أرضهم، وبحكمة قيادة وقوى إسلامية ووطنية، نصنع التحرير والفتح المبين، لعصر سماه سيد شهداء القدس والمقاومة السيد نصر الله بعهد الانتصارات وهزيمة العدو.
لكي لا ننسى كل ذلك، وكثيرون هم الذين يعملون من أجل أن ننسى، فعلينا أن نعمق قيم هذه المقاومة في وجداننا الإنساني والوطني، لتكون هي الخيار وهي الرمز الذي يمثل قيمة الشهادة عندنا والحياة.
إن فعل الشهادة سبيل ينتهجه أفراد صالحون مقاومون، من أجل أن يعمروا دنيا الجماعة وحياتها. وإن الحياة هنا تساوي الحق في أن تكون هوية الإنسان هي إنسانيته. إنها الرفض للهزيمة لأن الحياة انتصار، وهي رفض للجوع والأسر والتشرد والهوان، لأن الحياة غنى وحرية ووطن وعزة، وهي رفض للقطيعة والفتنة والظلم؛ لأن الحياة تواصل وحوار وتراحم وسيادة عادلة. إن الحياة هنا، كما الشهادة، خيار مفتوح على الإنسان لأجل الإنسان.
كيف يرسو محور المقاومة فوق عالم المهزومين، ممسكًا بمقاليد النصر؟
لقد انتقلنا ببركة الحسين، من خلال الحضور المشرف لجميع أبناء دول وحركات وشعوب محور المقاومة في زيارة الأربعين، من ثقل الإحباط وتداعيات الهزيمة وعقلها المتلبس بهواجسها إلى مراقي التجرد من كل شروط الهزيمة، مستأنفين إعادة الجهاد في سبيل الله بمفهومه الحق، وعززنا صلتنا به سبحانه، فعشنا الوثوق بما في يديه.
إن مشهد التقاء وفود الزائرين من أبناء المحور للإمام الحسين (ع) في أربعينية الشهادة، وعلى ثرى الطف المقدسة، كفيل بتقديم ما يلزم بين أيدينا لكي نتعرف على الروحية المجاهدة التي خططت ونفذت وصمدت وصبرت وضحت ولا تزال تنتقل بنا يوميًا درجات صوب بناء الذات في عالم الفعل المعبر عن الوجود. إن هذه الروحية التي أخرجتنا من مقابر الموات المهزوم إلى دنيا النصر والانتصار هي ملكة لا تُحصل إلا عند من سار في مسالك العرفان، ويعيش لقيم العدالة والحرية، وهما من قيم الخير، أي من قيم الوجود. وحينئذ لا بد أن ندرك أن المقاوم المجاهد هو الذي تملكته روح المقاومة والجهاد حتى بات لغزًا لا تنهدم أسوار معانيه وأسراره المنيعة بوسائل التعرف القريبة، نتيجة السير في رحلة روحية لها قواعدها ومقاماتها.
إن المقاومة والجهاد هما طريق العرفان نفسه، على مسلك الأسفار العقلية والروحية الأربعة.
إن المقاوم المجاهد الذي صنع كل هذه التحولات لم يأتِ من الفضاء، فقبل أن تتملكه روح المقاومة والجهاد بوعي عقلي واستعداد روحي تامين، كان قد قطع هذه الرحلة، وتركت فيه من تصاميمها ما يظهر جليًا في آثاره ومسالكه. إنهم في البدء كانوا من جنس من غرقوا في عالم الهزيمة وثقافتها في وجودنا المحبط.
وحيث هم من هذه النشأة المهزومة منذ النكسة، ومرورًا بكل الهزائم وتناقضات المشهد، كان لا بد أن يتشربوا من هذه الروح الخائرة الضعيفة والمتبلدة ما يقتضي منهم اجتهادًا في الفهم، ومجاهدة للنفس وجهادًا في الميدان. وحيث وُفقوا لهذا السفر الروحي وطريق كمالات النفس، خرجوا من عالم الهزيمة وثقافتها المؤطرة بمعرفة الخلق إلى عالم النصر وثقافته المؤطر بعرفان الخالق.
إنهم تعلقوا بالله، الذي يبدأ التعلق به بكشف الحقائق فتنفضح معه أوهام الخلق. ومن ثم يبلغ السفر مداه من النصر إلى النصر بالحق عبر تمثل صفات الأسماء والأفعال التي تنقشع معها بواعث الهزيمة وحجبها التي تحول دون رؤية معالم النصر بوصفها من أعراض ضعف الخلق.
حتى إذا بلغ السفر – في عالم النصر الإلهي على الذات الخائرة في منتهى قوس الصعود – مبلغه، بدأ العود إلى عالم الهزيمة بعقل منتصر.
وحيث إن فيوضات النصر الإلهي لا حدود لها، حيث لا يعلم جنود ربك إلا هو، فإنه لا بد في رسوهم فوق عالم المهزومين أن يتمثلوا لغة تفهيم عالمهم المهزوم، وهنا يصبح الحديث عن المقاومة بتكتيكها واستراتيجيتها من وسائل النهوض بحقيقة النصر في عالم غلبت عليه لغة الهزيمة ووسائلها.
ذلك لأن المقاوم المجاهد في تجليه في عالم الهزيمة لا يشعر بأنه يقامر من أجل نصر لم يقع، بل هو يشعر بأنه منتصر سلفًا. ولكونه منتصرًا بالقوة كشرط وجوده في عالم المهزومين، فإنه يبحث عن انتصار بالفعل وفق الاستراتيجيات والتكتيكات المتاحة في عالم الخلق، وهو أصلًا لم يحط في عالم المهزومين إلا بعد أن انتصر.
إن النصر الإلهي حتمية تساوق مفهوم الوعد الإلهي – “إن تنصروا الله ينصركم” – وهنا لا بد أن نقرر أن المقاوم المجاهد انتصر منذ نصره لله في عالم النصر الإلهي لمجرد تحقق السفر من الخلق إلى الحق. السفر الذي يتحقق بالمجاهدة النفسية والجهاد الميداني. فتتحول الحرب عند المقاوم العارف إلى محراب للعبادة.