دور الزيارة الأربعينية في الإصلاح

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
كانت الثورة الحسينية، وما زالت، ثورة الإصلاح الأكبر، ليس عند أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل عند أحرار العالم أجمع. فمع مرور أربعة عشر قرنًا، ما زالت شعلتها الوقّادة تلتهب في قلوب المؤمنين خاصة والأحرار عامة. وما زالت التضحية التي رسمها الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه في عاشوراء تنير درب الثوار وتشحذ الهمم في كل بقاع الأرض. فكان الجود بالنفس سمة النصر الحسيني، وأصبح هذا الدم الطاهر مادة سقاء لشجرة التحرر والفداء والتضحية من أجل العدل والإصلاح والنهوض والإباء.
ومن عظمة هذه الثورة أنها أوجدت مظاهر وشعائر أضافت إصلاحًا وتوعية إلى الإصلاح الأساسي الذي أوجدته الثورة نفسها، وهذا ما لا نجده في غيرها. وكان عنصر الخلود والتجدد والمعاصرة مما امتازت به ثورة الحسين عليه السلام، كما ورد في الرواية عن جده العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً».
وبعد انحراف الأمة عن مسارها الصحيح، أراد الحسين عليه السلام بدمه ومهجته أن يوقظها مما هي عليه، فصدع بمقولته المشهورة: «وأنّي لَمْ أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُريدُ أن آمُر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومَن ردّ عليّ هذا، أصبر حتّى يقضي الله بَيْنِي وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين».
وهذا الإصلاح الذي استهدفه الإمام الحسين عليه السلام هو الإصلاح العام الشامل لكل النواحي، سواء الدينية أو الفكرية أو الأيديولوجية أو التربوية أو السياسية. فهو لم يستهدف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الممارسات الفردية فحسب، بل الجماعية أيضًا. فكما أن هناك منكرًا فرديًا ومعروفًا فرديًا، كذلك هناك منكر جماعي ومعروف جماعي، قد تمارسه جماعة سياسية فيكون منكرًا سياسيًا، أو اقتصادية فيكون اقتصاديًا، أو تربوية أو فكرية أو إعلامية، وغير ذلك.
إن العملية الإصلاحية التي كان الحسين عليه السلام يستهدفها ليست إصلاح الأوضاع في زمانه فحسب، بل في كل الأزمنة، ولعل الإصلاح في كل الأزمنة كان هدفه الأساسي؛ لمعرفته عليه السلام أن أهل زمانه غير قابلين للإصلاح. وقد أشار إلى هذا المعنى في خطبته: «ويلكم، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمَن أطاعني كان من المرشدين، ومَن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد مُلئت بطونكم من الحرام، وطُبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟! ألا تسمعون؟!».
وهناك مظاهر عديدة وصور متنوعة للإصلاح في شعائر الحسين عليه السلام، منها: الخطابة الحسينية، والشعر الحسيني، والزيارة الحسينية، وغيرها. ونموذجنا في هذا المقال هو زيارة الأربعين المليونية العالمية المباركة، حيث أصبحت تلك الزيارة مظهرًا عالميًا، ورسالة كبرى في الإصلاح بكل نواحيه. وهنا نقف بصورة مختصرة على مفردة الإصلاح فحسب، تاركين فوائد الزيارة الأخرى دفعًا للإطالة والخروج عن هدف البحث، مستعرضين ذلك في عدة محاور:
المحور الأول: الإصلاح المعنوي والروحي
من أهم ما يسهم في الإصلاح الفردي والاجتماعي هو بناء شخصية المؤمن روحيًا ومعنويًا، ليكون مؤهلاً للقيام بوظيفته الشرعية تجاه ربه ونفسه ومجتمعه. وهناك آليات عديدة لذلك، أهمها اتخاذ القدوة الحسنة والسير على نهجها، والتزود بالعلم والمعرفة. فبناء هكذا شخصية يجعل الإنسان قويًا صبورًا أمام المصاعب، ويوجد عنده نفسًا عزيزة تأبى الذل، فيصبح شجاعًا صادقًا أمينًا، وغير ذلك من الصفات الحميدة.
ومن الآليات المهمة أيضًا انتهاج السلوك العبادي كوسيلة للتقرب إلى الله، وبناء الملكات النفسانية، وكسر الشهوات. فالصلاة، مثلاً، تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، وهي قربان كل تقي، وميزان الأمة. وكذلك الصوم والحج والجهاد وأداء الحقوق الشرعية، كل له آثاره في بناء شخصية المؤمن.
وزيارة الأربعين ـ خاصة مشيًا ـ تمثل ممارسة عبادية متنوعة وطويلة الأمد زمانًا ومسافة، تشابه موسم الحج في التنوع العبادي والجهد المعنوي. فتمارس فيها الزيارة والصلاة (خاصة الجماعة) والتسبيح والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء والمشي (كعبادة). وهذه الممارسات، عند تكرارها، تخلق جوًا روحيًا عاليًا من خلال الأجر الذي يحصده المؤمن، مع تحمل متاعب المشي والحر والبرد وتورم الأقدام، كما كان يتحمل الجوع والخوف في زمن الطغاة. وهذا يخلق شخصية دينية صلبة الإيمان، مؤهلة لدورها الشرعي.
وبعض روايات المشي وثوابه مستفيضة، بل متواترة، منها: 1- عن أبي الصامت، عن أبي عبد الله عليه السلام: «مَن أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلّ خُطوةٍ ألف حسنةٍ، ومحا عنه ألف سيئةٍ، ورفع له ألف درجةٍ…». 2- عن علي بن ميمون الصائغ، عن أبي عبد الله عليه السلام: «يا عليّ، زُر الحسين ولا تدعه… مَن أتاه ماشياً كتب الله له بكلّ خُطوةٍ حسنة، ومحا عنه سيئة… فإذا انصرف ودّعوه وقالوا: يا وليّ الله، مغفوراً لك…». 3- عن بشير الدهان، عن أبي عبد الله عليه السلام: «إنّ الرجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السلام، فله إذا خرج من أهله بأوّل خُطوةٍ مغفرة ذنوبه… فإذا أتاه ناجاه الله تعالى، فقال: عبدي، سلني أُعطك…».
وهذه الروايات واضحة في دور المشي لزيارة الحسين في البناء المعنوي وتحصيل الأجر، الذي يحتاجه كل مؤمن لسعادة الدارين.
المحور الثاني: الإصلاح الاقتصادي
القوة الاقتصادية وتأمين الوضع المالي من أهم مقومات نجاح الأمم بعد الموارد البشرية، مع معرفة إدارة المال وعدم الإسراف. فالمال سلاح ذو حدين: زينة الحياة الدنيا كما قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وفتنة إذا سوء استخدامه: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ). والروايات مدحت المال مع الدين، وذمته إذا كان وسيلة للعصيان.
ومن الممارسات الإيجابية في الاقتصاد ما تقوم به جموع المؤمنين من توظيف القدرة المالية في إحياء المناسبة، عبر الصرف على المواكب وإطعام الملايين، دون ميزانية دولية أو حزبية، بل تمويل شخصي من جمهور الحسين. وهذا تمرين على الصرف المنضبط، يحقق الإصلاح الاقتصادي الفردي والاجتماعي. فبعضهم يقاسم زواره قوت عياله، أو يبيع بيته أو سيارته. هكذا عمل يؤهل لتكوين مجتمع ملتزم، يبني اقتصادًا رصينًا يسد حاجة الأمة.
المحور الثالث: الإصلاح التعبوي
التعبئة مفهوم مهم في الدعوة، وهي قوة شعبية لخدمة الوطن أو المواطن، على أنواع: عسكرية أو إعلامية أو اجتماعية. والاجتماعية تحريك المجتمع كله للمشاركة الإيجابية. وهذا يحصل في زيارة الأربعين، بتعبئة جماهيرية لتحقيق هدف ديني.
فكل دعوة تحتاج قوة معنوية أو قيادية كاريزمية تخلق جمهورًا عبر التعبئة. والملاحظ أن الجمهور مقبل على الزيارة عفويًا، ينفق جهدًا ومالاً بفرح. هذا العمل التطوعي العظيم مفخرة لأتباع آل البيت، وثمرة النهضة الحسينية، فدور الزيارة في تعبئة المؤمنين لأي طارئ واضح، من خلال الحرارة التي أوجدها مقتل الحسين في قلوبهم.
المحور الرابع: الإصلاح الاجتماعي
المجتمع الناجح يتميز بقوة الترابط الاجتماعي، مما يساعد على البناء السليم. والروايات اهتمت به، كقول أبي عبد الله عليه السلام: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحُسن الجوار… إنّ أحداً لا يستغني عن الناس حياته». وكذلك: «عليكم بالورع… وعودوا المرضى… أَما يستحيي الرجل منكم أن يعرفَ جارُه حقَّه ولا يعرفُ حقَّ جاره». وعن زيد الشحام: «صِلوا عشائركم… فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه… قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك».
وبالمقابل، النزاعات تدمر المجتمع، كما في قوله تعالى عن فرعون: (جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ). والتنازع يهدر الطاقات، لذا يحرص علماء الاجتماع على خلق روح التعاون.
وفي زيارة الأربعين، يظهر الترابط بين الزائرين: كبارًا وصغارًا، أغنياء وفقراء، رؤساء ومرؤوسين، سواسية، بل يخدم الكبير الصغير أحيانًا. وهذا الترابط ليس بين أفراد الدول فحسب، بل بين الشعوب من عشرات البلدان، مما يذيب الحواجز النفسية والثقافية، ويعزز نسيجًا اجتماعيًا كبيرًا.
كما تمتاز الزيارة بإلغاء الطبقية والعنصرية، وتعميق التعارف كما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ). وهي فرصة للانفتاح الحضاري والحوار الديني، تمهيدًا لظهور الإمام الحجة عليه السلام.
المحور الخامس: البناء الفكري والعلمي
تحصين الأمة فكريًا وعلميًا واجب على المؤسسات الدينية، وتسويق المعلومة مشكلة كبرى. لذا يجب استثمار المواسم كالحج والعمرة والجمعة والمآتم الحسينية، كما فعل النبي وآل البيت. فشعائر الحسين، خاصة الأربعين، وسيلة لتسويق المعلومات الدينية.
خلق مجتمع متعلم قوام الدين والدنيا، كما قال أمير المؤمنين: «قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم…». ومن البناء الديني تحصين العقيدة والفقه والأخلاق عبر المحاضرات والكتب في الموسم، على عاتق الجميع خاصة أهل التخصص.
المحور السادس: الإصلاح الأمني
الحصانة الأمنية ركيزة للشعوب، تقيس قوة الدول. والتحصين الأمني يجب أن ينتقل من النظرية إلى التطبيق. وآل البيت أسسوا نظامًا أمنيًا عبر روايات التقية وكشف الأسرار.
وزيارة الأربعين تدريب أمني للمكلفين، خاصة أصحاب المواكب، يمنعون الاختراق، ويلاحظون التصرفات، ويسهرون على الأمن، حتى تشعر المرأة بالطمأنينة. هذا النظام يفوق الأنظمة العالمية، ويعطي دروسًا عملية في الإصلاح.
المحور السابع: الإصلاح الأخلاقي
التشريع يركز على خلق ملكات أخلاقية، عبر الآيات والروايات والأنبياء. وزيارة الأربعين درس أخلاقي عملي، يبني الملكات ويعكسها. ومن معطياتها:
1- الصبر: قيمة عالية، كما في قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، والروايات: «الصبر يُعقب خيراً». والمشي مصداق واضح للصبر على الصعاب.
2- التواضع: سمة المؤمن، مدحتها الآيات: (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، والروايات: «التواضع أصل كلّ شرفٍ». يطبقها الزائر بالبساطة والخدمة.
3- الإيثار: رقي الإنسان، مدحته الآيات: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ)، والروايات: «تقاسمه شطر مالك». يظهر في تقديم الزائر على النفس.
4- التضحية: يقدم الزائر جهدًا ومالاً، كما في دعاء الصادق: «الذين أنفقوا أموالهم…».
5- العفة: ركزت عليها الشريعة: (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، والروايات: «شيعة عليّ مَن عفّ بطنه وفرجه». تبرز في غض البصر والحجاب.
6- الشجاعة: تعلمها الزيارة، خاصة مع المنع، والروايات تحث عليها حتى في الحبس أو القتل.
7- الموالاة والبراءة: عقائدية أساسية، كما في الآيات: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ… يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ)، والروايات: «من أوثق عُرى الإيمان أن تُحبّ في الله…». تقويها الزيارة والشعارات.
8- التعايش السلمي: رسمه الإسلام، كما في عهد مالك الأشتر. الزيارة موسم للانفتاح على الثقافات.
9- إلغاء الطبقية: تكسر التكبر عبر الخدمة المتبادلة.
10- الشعور بالمسؤولية: تحمل مسؤولية إيصال رسالة آل البيت، كما في الروايات عن النعيم.
المحور الثامن: الإصلاح العسكري
المؤسسة العسكرية تعتمد على الموارد البشرية المضحية. والزيارة تبني الشاب المهدوي المقاوم، كتجربة الحشد الشعبي. فالشخصية الحسينية تصنع مجاهدين، تمهيدًا لجيش المهدي.
المحور التاسع: الإصلاح الإعلامي
القوى تستعرض جماهيرها لإيصال رسائل. والتجمع المليوني في الأربعين استعراض إعلامي عفوي، يوصل رسالة بأننا حسينيون ممهدون أقوياء منظمون. يحقق منجزات عددية ونوعية ودولية وحضارية وتعارفية.
المحور العاشر: المحور التكافلي
روح التكافل ضرورية للشخصية الممهدة. والزيارة موسم تكافلي، حيث تقدم الخدمات مجانًا بفرح، من طعام ومبيت ومساعدة، حتى مع الخصاصة.
المحور الحادي عشر: البناء السياسي
الزيارة تستذكر مبادئ الحسين السياسية: البراءة من الظالمين، والثورة عليهم، وخلق إرادة للتغيير. رفض الاستبداد، تمهيدًا للمهدي، كما في خطابه: «مَن رأى سُلطاناً جائراً…». والزيارة: «لعن الله أُمّة قتلتك…».
المحور الثاني عشر: الإصلاح التمريني والتدريبي
الإنسان يميل للراحة، لذا يحتاج تدريبًا على الصعاب. والزيارة مركز تدريبي لتحمل المحن، استعدادًا للظهور، فهي ورشة لصناعة شخصية قوية.
النتيجة
إن زيارة الأربعين بركات عظيمة مادية ومعنوية، أهمها الإعداد العملي للإصلاح على كل مستوياته، تطبيقًا لمقولة الحسين: «إنّما خرجت لطلب الإصلاح…». فحري بنا جعلها منارًا للإصلاح تنظيرًا وتطبيقًا. وهناك محاور أخرى قد تظهر للمتتبع، لم نذكرها دفعًا للإطالة.