المحور الثاني: من الهوية العقائدية إلى المكانة الحضارية «القسم الأول»

القسم السياسي:
الخصائص الاستراتيجية للشعب اليمني ومكانته في محور المقاومة
لا يمكن فهم التجربة المعاصرة لليمن، خاصة في ظل ظهور أنصار الله، دون دراسة عميقة للبنية الحضارية والثقافية والسياسية للشعب اليمني. هذا الشعب لم يقاوم فقط أحد أشد الحملات العسكرية في العصر الحديث، بل أعاد تعريف مكانته ودوره في المعادلات الإقليمية؛ بحيث ابتعد عن هيمنة دول الخليج العربي وعمل ضمن منطق إيماني توحيدي شامل يتوافق تماماً مع خطاب محور المقاومة.
اليمن… ذاكرة إيمانية لا تُهزم
يتفق المؤرخون على أن اليمن كان أول شعب اعتنق الإسلام طواعية وبدون إكراه. أول جمعة في شهر رجب هو اليوم الذي آمن فيه شعب اليمن برسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى قبل الهجرة، وأرسل النبي (ص) بعض أبرز أصحابه، بما في ذلك معاذ بن جبل، لتعليمهم القرآن.
هذه الحقيقة ليست مجرد حدث تاريخي، بل جزء من الذاكرة الجمعية للشعب اليمني. فهم يحتفلون بهذا اليوم سنوياً، رغم سنوات الحرب والحصار، ما يعكس ارتباطهم العميق والأصيل بالإسلام؛ ارتباط ليس عارضاً أو مشروطاً، بل متجذر بعمق في وعيهم الجمعي.
الإمام علي (عليه السلام) واليمن: حين نزل التوحيد على أرض الحكمة
لا يمكن الحديث عن إسلام اليمنيين دون الإشارة إلى المهمة التاريخية التي كلف بها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). فقد أرسله النبي إلى اليمن داعياً ومعلمًا وقاضياً. كانت هذه الأرض المباركة شاهدة على أحد أهم مراحل الدعوة الإسلامية، دعوة لم تتم بالسيف أو الإكراه، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، بما يتوافق تماماً مع طبيعة المجتمع اليمني المتجذر في القيم والتوحيد.
يروي المؤرخون أن الإمام علي (عليه السلام) دخل منطقة همدان ودعاهم إلى الإسلام، فأسلمت همدان بالكامل في يوم واحد، دون حرب أو إكراه. هذا الحدث أسعد النبي (صلى الله عليه وآله) كثيراً حتى قال: «كلما أرسلت علياً إلى مكان، عاد منتصراً»، وكتب له: «السلام عليك يا علي، عندما أسلمت همدان، ارتاح قلبي».
هذا الحدث، النادر في تاريخ الدعوة الإسلامية، أظهر العلاقة الأولى بين شعب اليمن وأهل البيت (عليهم السلام) وأرسى جذور المحبة والولاء العميقة التي تستمر حتى اليوم. لذلك، يحرص اليمنيون، خاصة في الشمال، على الاحتفال بجمعة رجب كنقطة مضيئة وإيمانية في تاريخهم.
من هذا المنطلق، ليس من المستغرب أن يرتبط المشروع المقاوم المعاصر في اليمن تحت قيادة أنصار الله بمنظومة فكرية وروحية تستلهم من الإمام علي (عليه السلام) العدالة والتوحيد والسيادة، وتستلهم من صموده دروس المقاومة ضد الظالمين، كما فعل إمام الأوصياء في حياته.
فاطمة الزهراء (عليها السلام): سيدة المقاومة ومرجع الروح اليمنية
في وعي أنصار الله، لا تقتصر مكانة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على الجانب الروحي أو العاطفي، بل هي رمز راسخ للولاية المظلومة ونموذج فريد في معركة الحق ضد الباطل. لهذا السبب، يشير السيد عبد الملك الحوثي مراراً إلى الزهراء ويصفها بأنها «قدوة في وقت الهزيمة ونموذج سامٍ للصمود أمام الطغيان».
يتذكر اليمنيون شخصية الزهراء (عليها السلام) في مواجهة الظلم السياسي والعدوان الخارجي، كما واجهت بعد رحيل والدها (صلى الله عليه وآله وسلم) مشروع الانحراف عن مسار الرسالة. ولهذا، يظهر اسم الزهراء في المخيمات، مراسم العزاء، على الصواريخ الردعية، وحتى في تسمية العمليات العسكرية التي تنفذها القوات اليمنية للدفاع عن الأرض والمعتقد.
بالنسبة للنساء اليمنيات، تمثل الزهراء (عليها السلام) نموذجاً للحضور المقاوم لا الانعزال، وللقيادة بموقف لا بالمظاهر أو الترف. بينما كانت النساء الخليجيات تُستخدم كأداة لتجميل وجه الأنظمة المطبعة، رفعت النساء اليمنيات راية الزهراء وتقدمن الصفوف في المسيرات، بشعار «الزهراء طريقنا».
في ثقافة أنصار الله، الزهراء (عليها السلام) ليست مجرد ذكرى عابرة في التقويم الهجري، بل مبدأ وموقف؛ خلاصة روحية لجوهر الصراع: هل نقاوم الباطل العنيف أم نكتفي بالصمت والخيانة؟ لهذا، تتجلى في شعاراتهم ووعيهم وتوجهاتهم التي لا تنحرف: «فاطمة الزهراء، فاطمة فلسطين».
الحسين (عليه السلام): دم الثورة وسيف الوعي في وعي أنصار الله
في خطاب أنصار الله، لا يُذكر الإمام الحسين (عليه السلام) فقط باعتباره شهيد كربلاء، بل كرمز خالد للثورة الإيمانية ومرجع دائم لكل مشروع مقاوم يرفض الخضوع والمساومة. الحسين في وعيهم ليس ماضياً مقدساً فحسب، بل حضوراً مقاومًا ومستقبلاً لا يقبل الجمود.
لهذا السبب، عاشوراء في اليمن ليست موسم بكاء، بل فرصة للتعبئة والاستعداد، لتذكير الجميع بأن «كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء». وفي هذا السياق، يشير السيد عبد الملك الحوثي مراراً إلى المفاهيم الحسينية باعتبارها دليلاً لرفض الخضوع، وتمثيلاً للسيادة على المواقف، ورمزاً لمن لا يذل للطغاة.
في وعي التعبئة لأنصار الله، أصبح الحسين منارة لمواجهة الطغيان العالمي، سواء كان العدو صهيونياً، أم أمريكا، أم وكلائهم في المنطقة. وحتى في صياغة مفرداتهم الإعلامية والعسكرية، يُستحضر نموذج كربلاء الرفيع في مواجهة الحصار والغياب.
يكفي الاستماع إلى شعارهم المعروف: «هيهات منا الذلة» ليدرك المرء أن هذه العبارة ليست مجرد شعار ديني، بل عقيدة سلوكية توجه مسارهم اليومي في خنادق المعارك.
واحدة من أبرز عملياتهم الدفاعية، والتي استهدفت عمق السعودية، أُطلق عليها اسم «عملية كربلاء»، وكأن الحسين في نظرهم لم يمت، بل انتقل إلى جبهات أخرى في صعدة، مأرب والساحل الغربي.