في ذكرى تغييب الإمام الصدر ما هي أسباب وحقيقة إختفائه؟

لندن – د. أحمد الزين – الاحد في 31-8-2025:
لقد مضت سبع وأربعون عاماً على إختطاف الإمام موسى الصدر، والذي اختفى بصورة مريبة وغامضة في 31 آب/ أغسطس عام 1978، عندما كان في زيارة إلى ليبيا بدعوة رسمية من رئيسها المقبور معمر القذافي، ولا يزال غموض تغييبه قائما، ولم تنجح كل المحاولات والوساطات الدولية من تحديد مكانه أو الكشف عن مصيره، والذي بات لغزاً سياسياً ودينياً وتأريخياً، ولا يزال هذا السرّ مدفوناً دون الكشف عن فصوله وفك شيفرته حتى يومنا هذا.
وبالرغم من محاولة الدولة اللبنانية و”حركة أمل” والقادة المعنيين بتكليف “اللجنة اللبنانية لمتابعة القضية”، سياسياً وقضائياً وإنسانياً، لكنه لم يتم بذل الجهود الكافية، أو القيام بالتحرك الفعلي والضغط اللازم، ويرجع السبب إما لوجود تقصير عفوي أو متعمد أو لعدم بذل الرغبة الحقيقية أو لعدم توفر النيات المخلصة تبتغي كشف المستور.. والواضح أن الجميع مقصرون في هذه القضية أو مشاركون في تمييعها وتضييعها وإخفائها لأهداف شخصية أو سياسية أو إقطاعية داخلية أو لأهداف تتعلق بمخططات أمريكية صهيونية عالمية..
فقد كانت حياة الإمام الصدر قصيرة في لبنان، الذي عاش فيه حوالي 18 عاماً، إلا أنه ترك آثاراً كبيرة جداً على تغيير النظام اللبناني الطائفي آنذاك، وترك بصمات جليلة على إستنهاض الطائفة المسلمة الشيعية المستضعفة في لبنان من سباتها، واستثمر طاقاتها العلمية ونخبها الصاعدة وقدراتها الهائلة بعد تهميشها واستبعادها، ونجح في إضعاف نفوذ المارونية السياسية والطوائف الأخرى والعائلات الإقطاعية، وعمل على انتزاع منهم فائض القوة العرفية التي فرضها الانتداب الفرنسي في لحظة تأريخية، الذين استغلوا واستأثروا واستولوا على السلطة والحكم وكل الامتيازات والمناصب لهم رافضين الشراكة الوطنية..
فقام الإمام بخطوات حثيثة لتصحيح التأريخ وتغيير الواقع المفروض بسلسلة من الإجراءات الجريئة لإعادة التوازن الطائفي والتوافق السياسي والإجماع الوطني.. انطلاقاً من إيمانه بالتعايش الإسلامي المسيحي الذي اعتبره ثروة يجب التمسك بها، من أجل حماية العيش المشترك والسلم الأهلي.. فكان أول عالم دين في لبنان يحاضر في الكنائس كما يحاضر في المساجد والمعاهد والجامعات، وكرّس مفهوم التعايش عملياً بحضوره ودفاعه عن الطوائف جميعهم، وكانت أفكاره الرائدة وخطاباته وقيمه الحضارية تركز على خدمة الإنسان المحروم بغض النظر عن دينه أو عقيدته أو جنسه أو قوميته أو انتمائه..
وهو الذي رفع الشعار الوطني الخالد والذي تبناه دستور الطائف عام 1989: “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، أي ليس حصراً لفئة واحدة طاغية ومتحكمة على مفاصل الدولة ومؤسساتها كما كان.. بل الوطن يستقيم بالمشاركة المتوازنة والمناصفة في الحكم، والمساواة بين أبنائه المقيمين والمغتربين واحترام تنوع الطوائف.. حيث قال: “ليس في العالم شعب صغير وشعب كبير بل شعب يريد الحياة وشعب لا يريدها، وإن الطائفية نقمة وتعدد الطوائف نعمة وأن الطوائف نوافذ حضارية”.
وتبنى الإمام الصدر خطاب التسامح والاعتدال للتقريب بين الطوائف والمذاهب، وبثّ روح التعايش والوحدة والمحبة، وهو القائل: “إنّ المسيحيين هم إخوان لنا في الوطن وفي الإيمان”. ودعا إلى تعزيز الوحدة الوطنية ومقاومة المحتل الصهيوني، ورفض مفهوم أن “قوة لبنان بضعفه”، بل اعتبر: أن “قوة لبنان بوحدته ومقاومته”..
واعتبر أن هذا المفهوم الجديد هو الذي يعيد للدولة هيبتها وقوتها وتماسكها، ويبني مشروع دولة حضارية قادرة عادلة راسخة، ويؤمن عوامل الاستقرار والاستقلال والسيادة.. وليس الفيدرالية (التي فرضتها الحرب الأهلية عام 1975)، ولا مجرد تعايش مؤقت مصطنع هش يكون عرضة للانقسام والتفكك والاحتراب عند أي أزمة طارئة داخلية أو خارجية.. (كما يحصل اليوم بتبني الحكومة اللبنانية بالورقة الأميركية الإسرائيلية أنموذجاً).
وعندما تقاعست الدولة اللبنانية عن القيام بدورها في حماية أبناء جنوب لبنان، وتغاضت عن اعتداءات الكيان الصهيوني، دعا الإمام الصدر إلى إحياء ثقافة المقاومة ضد المحتل الصهيوني، وأنشأ “حركة المحرومين” وذراعها العسكري “أمل” لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وإحباط مشروعها بضم جنوب لبنان، حيث قال: “إن لبنان دون منطقة الجنوب أسطورة (خرافة)، وإن الجنوب القوي سياج لبنان”. وقال: “الوطن يحفظ بالجهاد والكرامات تحفظ بالشهادة”.
واعتبر أن مفهوم المواطنة والوطنية والسيادة تتجلى في التضحية والشهادة للدفاع عن الوطن والأرض والإنسان، من خلال مقولته الخالدة: “السلاح زينة الرجال”. وكان يؤمن بالدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، ويملك رؤية استراتيجية لتحرير القدس والمقدسات، من خلال تفعيل المقاومة والكفاح المسلح على أيدي المؤمنين، رافعاً شعاراته الشهيرة: “إسرائيل شر مطلق”، والتعامل معها حرام، و”عيشنا دون القدس موتٌ وذلّ وهوان”، و”إن شرف القدس يأبى أن يتحرر إلا على أيدي المؤمنين”.
فكان الإمام الصدر قائداً عظيماً وعالماً مجتهداً، ومفكراً مصلحاً، وحكيماً عقلانياً معتدلاً، لذلك أحبه اللبنانيون والعرب بمختلف طوائفهم، وليس الشيعة فقط، وكان وجوده وخطه الإصلاحي التغييري، وفكره النهضوي المقاوم مؤثراً جداً في لبنان والمنطقة. فكان يدعو من خلال رؤيته الاستراتيجية إلى تنامي ثقافة المقاومة وبناء القوة العسكرية، ومقارعة الظالمين والمحتلين والغزاة والطغاة.. وهذه الرؤية كانت تضرّ بأمريكا ومصالحها، ومصالح قاعدتها العسكرية المسماة بـ “إسرائيل”، والتي شكلت تهديداً استراتيجياً لأمريكا وحلفائها، وتهديداً وجودياً لذراعها الكيان الصهيوني، وأصبح العدو الرئيس لهم.
لذلك، نعتبر في سياق تأريخ السلوك الإجرامي لأمريكا و”إسرائيل”، بأنهما المسؤولان المباشران عن جريمة إختفاء الإمام الصدر، بالإيعاز إلى عميلهم القذافي المقبور في الإعداد والتخطيط معاً لعملية اختطافه وتصفيته، تماماً، كما أوعزوا إلى عميلهم صدام حسين المقبور في العراق بشن حرب عدوانية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتراف المسؤولين الأميركيين، وكما اعترف المجرم ترامب علناً وبكل وقاحة بتنفيذ عملية اغتيال الشهيدين سليماني والمهندس في مطار بغداد عام 2020.
والشاهد اليوم ما تفعله أمريكا من خلال الخداع والدبلوماسية المغلفة بالتهديد والوعيد، وما تحضره وتخطط له لنزع سلاح حركات المقاومة في المنطقة وتجريدهم من عناصر قوتها واقتدارها، لضمان أمن “إسرائيل” والبقاء على تفوقها العسكري لإنشاء حلمها التوراتي التلمودي “إسرائيل الكبرى” من الفرات إلى النيل، وما تقوم به أمريكا بتقديم السلاح والمعلومات الأمنية والاستخبارية إلى الكيان الصهيوني والإيعاز بالوكالة إليه لشنّ الحرب الأخيرة في حزيران الماضي على إيران، وتوكيله بتنفيذ عمليات الاغتيالات والتصفية لقادة المقاومة ومجاهديها في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وإيران، باستخدام وكلائهم وعملائهم.. (وما تفعله أمريكا في لبنان حالياً أنموذجاً).
لقد صدق الإمام الخميني (قده) بنظرته الثاقبة واستشرافه عندما وصف أمريكا بأنها “الشيطان الأكبر”، وأن “إسرائيل” غدة سرطانية.. واعتبر بأن أمريكا هي طاغوت هذا العصر، ورأس الشرّ والكفر في العالم، لأنها صانعة للحروب والدمار في هذا العالم، وأنها رأس الحربة في مشروعها الاستعماري في القضاء على الإسلام ومحاربة المسلمين، واحتلال دولهم لنهب ثرواتهم من نفط وغاز ومعادن ثمينة، كما خططت وحاربت في كثير من دول حول العالم..
وحديثاً ما تفعله في أوكرانيا للاستيلاء على ثرواتها ومعادنها الثمينة، من خلال استفزاز روسيا، وكانت السبب في اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، لتصل إلى أهدافها وأطماعها وتأمين مصالحها الاقتصادية على حساب دماء الشعوب وتجاهل كل القوانين الدولية وضرب كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية.. ولكن السنن الإلهية والتأريخية تفيد بأن أنظمة الظلم والفساد والطغيان والاستبداد لا تطول ومصيرها حتماً السقوط والزوال في نهاية المطاف، استناداً وإيماناً بما قاله الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، و{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}.