القسم السياسي

“في ذكرى التغييب: موسى الصدر…. شعلة لا تنطفئ”

✍️ حوراء المصري:

 

في أواخر السبعينات، غاب صوت من كان يمثل المستضعفين والفقراء في لبنان والمنطقة، إنه الإمام موسى الصدر، رجل الدين والمقاومة فضلًا عن السياسة، والذي خرج من عباءة المرجعية ليحمل همَّ الناس جميعًا بلا تمييز أو طائفية، فدافع عن المسيحيين والمسلمين وكذلك المهمشين والمحرومين، ليزرع منهجًا جديدًا يقوم على العدالة والوحدة الوطنية والكرامة.
إلا أن تغييبه في ليبيا عام 1978 بشكل غامض جعل المجتمع العربي يفجع بغياب صوت العدالة. تركت هذه الحادثة أثرًا كبيرًا لا نزال نراه اليوم في لبنان والمنطقة.
بين الغياب والحضور تحولت الذاكرة إلى مرآة نقيس عليها واقعنا الراهن بما يملؤه من انقسامات وأزمات طائفية، إلا أننا لكي نفهم عمق هذا الغياب يجب أن نعود إلى بداية الإمام المغيَّب لنعرف الأثر الفعلي الذي تركه على المنطقة ولبنان خصوصًا.

“موسى الصدر: من الولادة حتى التغييب”

في بيتٍ تصدح فيه أصوات الآيات القرآنية والعلم والدين، وُلد الإمام موسى الصدر عام 1928، في مدينة قُم في إيران. عاش وترعرع هناك حتى أنه درس في جامعة طهران في قسم الحقوق والاقتصاد السياسي. لم يكن الإمام شخصية عادية تولد في بيتٍ يردِّد القرآن والدين، بل إنه يمتلك إرثًا دينيًا كبيرًا يُحتذى به؛ فجده ووالده من كبار العلماء، مما منحه خلفية عريقة تمكنه من قيادة الأمة.

عاد الإمام موسى الصدر إلى لبنان عام 1959، ليصبح خلفًا للمرجع السيد عبد الحسين شرف الدين. لم يأتِ بصفته قائدًا دينيًا فحسب، بل بصفته حاملًا لمشروع وطني حر يعود بالنفع على الشعب اللبناني. أدرك “موسى” أن لبنان، بما يمتلكه من تنوع طائفي ومذهبي، يحتاج إلى من يتجاوز هذه الانقسامات ويعيد حقوق المهمشين والمضطهدين، فضلًا عن توحيد اللبنانيين جميعًا مع بعضهم البعض دون تفرقة دينية.

شكّل “الصدر” المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سنة 1969، ليكون منبرًا للمطالبة بحقوق الشيعة، إلا أنه لم يجعل الأمر يقتصر على حقوق الطائفة الشيعية، بل أخذ يطالب بحقوق جميع اللبنانيين، مما جعل خطاباته تجذب المسيحي والمسلم. أطلق عدة مشاريع إنسانية وتنموية، وكانت شخصيته تتميز بمزج ما تعلمه في المرجعية مع الأفكار الحديثة، مما أكسبه شعبية كبيرة في المنطقة.

الإمام موسى الصدر كان قائداً دينياً، و كان قائدًا وطنيًا يدافع عن المستضعفين مهما كانت انتماءاتهم السياسية والدينية، مما جعل حادثة تغيبه تهز لبنان على اختلاف طوائفه، فبدأت التساؤلات: كيف غاب صوت المهمشين؟

“الغياب الغامض….. الذي زلزل المنطقة”

كان غياب الإمام موسى الصدر من أكثر الأحداث غموضًا في التأريخ اللبناني والعربي المعاصر، فبين ليلة وضحاها غاب صوت العدالة. فما القصة وراء الغياب؟

في 25 أغسطس عام 1978، توجه الإمام الصدر نحو ليبيا بدعوة رسمية من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ، وذلك بهدف حضور مؤتمر ديني واجتماعي. كان يرافقه في هذه الرحلة الشيخ محمد يعقوب والصحفي عباس بدر الدين.

إلا أنه بعد هذا المؤتمر لم يعد الإمام ولا مرافقاه إلى لبنان. فشوهد آخر مرة في طرابلس الليبية في 31 من الشهر نفسه، فضلًا عن ظهوره وهو يُلقي كلمة يقول للبنانيين إنه عائد إليهم، إلا أن هذه الكلمات كانت آخر ما سُمع منه.

الجدير بالذكر أنه رغم الضجة التي أحدثها غيابه في الشارع اللبناني وبعض البلدان الداعمة له، إلا أن المجتمع الدولي قابل هذا الحادث بالصمت، سواء من النظام الليبي أو من الأطراف الدولية الأخرى، مما جعل الكثير يوجه أصابع الاتهام لمن صمتوا عن هذا الغياب أو بالأحرى عن عملية اختطاف غامضة.
رغم الغياب الجسدي للإمام، إلا أن فكره ومبادئه بقيت حاضرة في وعي الشعب، فأصبح غيابه نموذجًا للغياب القسري للقادة الوطنيين في الوطن العربي. فصوته ما زال رمزًا للعدالة والحق، وحضوره الفكري والأخلاقي مستمر في كل خطاب يذكر الحق والمساواة، فتراه يُستحضر في كل منبر يدعو للمقاومة والوحدة الوطنية.

“موسى الصدر….. وعي فكري وسياسي”

لطالما كان الإمام من أكثر الشخصيات التي تدعو للوعي الفكري ومعرفة أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة الأفكار الاستعمارية التي يحاول الغرب تطبيقها علينا.
فكان يرى أن الطائفية ليست قدرًا محتومًا لا يمكن تخطيه، بل يمكن تجاوزها عبر الحوار والتفاهم والعدالة. لذلك كان يركز على التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة، فدعا لأن تكون الطوائف شريكًا في التنمية والحقوق لا في الصراع والانقسام.

“الإمام….. إرث المقاومة اللبنانية”

كان الإمام من أشد المدافعين عن السيادة الوطنية، فرفض أي تدخل خارجي في لبنان، ولا سيما ما يهدف إلى السيطرة. دعم المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، وكان من المشجعين على قتالها.
ربط الصدر بين الحرمان المجتمعي والسيادة الوطنية، مؤكدًا أن العدالة الداخلية لا تأتي إلا من قوة الدولة الموحدة ضد أي تدخل خارجي.

“الشباب العربي وإرث الصدر”

بقيت أفكار الإمام الصدر مصدر إلهام للشباب العربي، فمثّل نموذجًا يُحتذى به في القيادة والمقاومة. فرغم غيابه، إلا أن خطاباته شكّلت بوصلة لفكرهم، مما جعل صفوف المقاومة تضج بروح وفكر الشباب، فباتت عصيّة على الكسر بفضل شبابها الذين ساروا على خطى إمامهم المغيَّب.

“الصوت الغائب في الواقع الراهن”

كما ذكرنا سابقًا، كان الإمام موسى الصدر يؤمن بالتعايش السلمي بين الطوائف، مما يجعل الوحدة الوطنية صلبة في وجه التدخلات والمؤامرات الغربية. بينما تعاني معظم الدول العربية اليوم من الانقسامات الطائفية والمذهبية والصراعات الداخلية، يجعلنا ذلك نعي أهمية وجود شخصية كالإمام موسى الصدر الذي وحّد عبر خطاباته جميع مكونات المجتمع دون تمييز. الفجوة الكبيرة التي حصلت بعد غيابه جعلت الكثيرين يفتحون باب المقارنة بين الماضي والحاضر المؤلم.

خطاب موسى الصدر يمكن أن يكون دليلًا للشباب العربي المعاصر الذي يواجه اليوم أشد وأعتى الحروب الفكرية التي تحثه على الطائفية والتطرف لجهة دون أخرى. الإمام الغائب ترك لنا دعوة فكرية دينية تحث على تفعيل الوحدة الوطنية وجعل المجتمع أكثر تماسكًا، دون الانجراف إلى الأجندات الغربية.

“الصدر…. ذاكرة حية حتى يومنا هذا”

رغم غياب الإمام موسى الصدر جسديًا، إلا أنه ترك وراءه صوتًا يتردد في وجدان اللبنانيين والعرب أجمعين. ذكراه حزن على غياب جسد، و هي إشراقة تدفعنا للاستمرار في تحقيق ما كان يطمح إليه من وحدة وطنية وانعدام الطائفية التي تدمر المجتمع. موسى الصدر شعلة لا تنطفئ في ذاكرة المجتمع العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى