هل أصبح الإعلام العربي ناطقًا بالعبرية؟

حوراء المصري:
منذ عقود، كان الإعلام العربي يرفع شعارات المقاومة ويناهض الاحتلال، فكانت فلسطين تحتل نشرات الأخبار والتقارير التلفزيونية، إلا أن اليوم تغير المشهد؛ شاشات عربية تستضيف مسؤولين صهاينة تحت مسمى “محللين” و”باحثين”.
فترى برامجهم تعمل على تلميع صورة الاحتلال، بل وحذفوا مصطلح “احتلال” من إعلامهم وأخذوا يكررون الاسم المزيف لفلسطين أي “إسرائيل” ، مكرسين أن الكيان الصهيوني ما هو إلا جار عادي لا مستعمر استيطاني.
لم يعد التساؤل حول صهينة الإعلام الغربي الذي لطالما دعم الاحتلال، بل أصبح الأهم هو: كيف صارت المنصات العربية تمهّد الطريق نحو تطبيع وصهينة الوعي العربي؟
“الإعلام العربي: بين الماضي المشرّف والحاضر المخزي”
إن صهينة الإعلام العربي لم تكن بين ليلة وضحاها، بل أخذت مسارًا طويلًا رسمه الكيان لتدمير الوعي العربي، وتمكين مصالحه عبر تحويله من عدو إلى صديق.
كان الإعلام العربي في الستينيات والسبعينيات يتقمص دور المقاوم، فكان يقدّس القضية الفلسطينية، حتى أنه جعلها أولوية قصوى في محطاته وبرامجه، خصوصًا بعد نكبة 1948 ونكسة 1967، فكان تعبويًا قوميًّا بكل معنى الكلمة، فخطاباته كانت واضحة: “الكيان عدو محتل” و”المقاومة شرف وعزة” فضلًا عن شعار “فلسطين قضية العرب الأولى”.
كانت الإذاعات آنذاك تحشد الجماهير لرفض الوجود الصهيوني، أمثال “صوت العرب” في مصر، فضلًا عن باقي الإذاعات العربية التي بثت رسائل قوية ضد الصهاينة.
إلا أن هذه المرحلة لم تطل كثيرًا، فمنذ اتفاقية كامب ديفيد 1978 حتى أوسلو 1993 وصولًا إلى وادي عربة 1994، هذه المراحل شكلت عملية فقدان الإعلام المقاوم. ففي الاتفاقية الأولى بدأت بعض وسائل الإعلام بكسر حاجز الرسمية، وتجلى هذا في لغة الإعلام المصري وبعض الإذاعات العربية الأخرى.
أما في أوسلو، والتي رسخت مفهوم “السلام” مع الكيان، والجدير ،فقد شهد الإعلام الفلسطيني تحولاً في هذه المرحلة، فأخذ يدعو أبناء فلسطين للتعايش والانخراط في التطبيع مع الكيان الصهيوني.
كذلك الأمر في اتفاقية وادي عربة، حيث زاد الضغط على المؤسسات الإعلامية العربية في بعض الدول ودفعها لتليين خطاباتها ضد الصهيونية.
“الإعلام العربي بعد عام 2000”
بعض القنوات العربية بقيت منحازة إلى شعب المقاومة وخاصة خلال انتفاضة الأقصى سنة 2000 وحرب تموز لبنان عام 2006، في المقابل ظهرت فضائيات تروّج للكيان وتُسقِط المقاومة، فضلًا عن عملها الممنهج على تعتيم أخبار المقاومة وترويجها لفكرة “السلام” والصهينة.
فلم يعد الخطاب الإعلامي العربي متماسكًا كما في الماضي، فقد بات منقسمًا: جزء يدعم المقاومة بالكلمة والصورة، وجزء آخر يمهد الطريق للكيان لتطبيع علاقاته مع دول الجوار.
“اليوم… الصهينة الحقيقية للإعلام العربي”
بعد انشغال الإعلام العربي بعدة حروب وانتفاضات كالربيع العربي، ما جعل من القضية الفلسطينية تتراجع أكثر فأكثر، إلا أنه وسط هذا الانشغال تسلل الكيان ليصبح المسيطر الأكبر على المؤسسات الإعلامية في المنطقة. فبعض هذه الوسائل عملت على تصدير رسالة أن القضايا الداخلية أهم من القضية الفلسطينية.
زاد الأمر بعد توقيع اتفاقيات أبراهام 2020 بين الكيان الغاصب وبعض الدول العربية، فتغير الخطاب العربي بشكل ملحوظ وبدأت بعض الوسائل تظهر الاحتلال على أنه شريك اقتصادي وثقافي فضلًا عن أمني. ففي النشرات أصبحت “إسرائيل” تُذكر كدولة طبيعية لا كـ”محتل غاصب للأرض الفلسطينية”.
تطور الأمر في وقتنا الراهن ليصبح الموضوع يُطبق على أرض الواقع بكل جرأة، فقام بعض الدول العربية باستضافة فرق ترفيهية من يافا المحتلة والترويج لهم عبر الوسائل الإعلامية العربية، فضلًا عن حضور بعض المسؤولين التابعين للكيان في معظم البرامج العربية بشكل دائم بصفة محلل سياسي وإعلامي وإستراتيجي وأمني وما إلى ذلك . فأصبح الكيان حاضرًا في جميع البيوت العربية بطريقة طبيعية بمساعدة المتصهينين العرب.
اليوم، لم تعد عملية صهينة الإعلام العربي ظاهرة معزولة لا يمكن تطبيقها، بل تحولت لتكون سياسة إعلامية ممنهجة تستهدف إعادة تشكيل الفكر العربي بما يخدم مصالح العدو. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تمكن الاحتلال من السيطرة على الإعلام العربي؟ ما هي الآليات المستخدمة؟
“الإعلام وآليات الصهينة”
لم تقف صهينة الإعلام العربي عند حدود تغيير بعض المصطلحات أو استضافة مسؤولين صهاينة، بل تطورت لتشكل أولويات الجمهور العربي. فالقضية الفلسطينية أصبحت حدثًا عابرًا مهمشًا، عبر إغراق الجمهور بموضوعات تافهة تشغلهم عن قضاياهم المهمة. مثال: أن بعض القنوات أثناء الاعتداء الصهيوني على غزة وجنوب لبنان، تقوم ببث برامج ترفيهية لجذب انتباه الجمهور.
تصوير “التطبيع والاستسلام كحل وحيد لحل القضية؛ فعمل بعض المنصات على إبراز أن التطبيع هو الازدهار والاستقرار، كتغطية اللقاءات الرسمية بين أي دولة عربية والكيان كحدث تأريخي.
إلا أن الأهم من هذا كله هو استخدام العاطفة عبر إظهار مواطني الكيان كضحايا، فتركيزهم على خوف المستوطنين من الصواريخ دون إيلاء أي اهتمام لصور الضحايا والأطفال المستهدفين في غزة. فنصل لفكرة أن الإعلام العربي لم يعد عربيًا بل تحول إلى عبري داعم للكيان، فضلًا عن تهديد بعض الصحفيين بطردهم من أعمالهم في حال ناهضوا الكيان. يبقى السؤال: كيف تظهر هذه الآليات على أرض الواقع؟
“الصهينة على أرض الواقع”
إن آليات الصهينة لم تتوقف عند كونها مفاهيم نظرية ، لأنها أصبحت واقعًا يوميًا يتجلى في بعض القنوات العربية كـ الجزيرة، و MTV وMBC فضلًا عن “العربية” و أخواتها. هذه القنوات ، وقنوات عربية أخرى و عراقية، عملت بشكل فعال لترسيخ الفكر الصهيوني في الوعي العربي عبر برامجها ومسلسلاتها فضلًا عن نشرات أخبارها، التي أخذت تتمحور حول الكيان.
نجد أن المشاهد العربي يتعرض إلى جرعات متكررة من التطبيع، مما جعل بعض الشباب يميل لما يسمى “السلام” مع الاحتلال ويرفض المقاومة , بل ويهاجمها .
“النتائج والآثار”
إن أخطر ما أنتجته صهينة الإعلام العربي هو استهداف الوعي الجمعي للأمة، وتعبئتها ضد محور المقاومة والقضية الفلسطينية. إن تمهيد الإعلام العربي لفكرة التطبيع عبر الفن والترفيه جعل من التطبيع السياسي أمرًا عاديًا لدى الشعوب.
فضلًا عن انقسام الإعلام العربي بين من يدعم المقاومة ويرى أنها شرف الأمة، وبين من يراها عبئًا، مما أدى لتشويش الشعوب وعدم معرفتها الصواب من الخطأ.
إن تكرار الخطاب التطبيعي يخلق أجيالًا عربية بلا هوية رسمية، تقبل الهيمنة الأجنبية ولا سيما الكيان. فالهدف واضح: نزع القضية الفلسطينية من الوجدان العربي.
في نهاية المطاف، إن صهينة الإعلام العربي تحولت إلى معركة صامتة تستهدف الوعي الجمعي للشعوب العربية، بهدف إسقاط قضيتنا العربية ودحر المقاومة من الوجود. لذا أصبح من مسؤوليتنا أن نعي بمخاطر الخطاب الإعلامي الجديد الذي يُمارَس علينا، وأن نفهم مخاطر مواقع التواصل الرقمي ولا سيما تلك التي تتلون وتطرح مصالح الكيان بدلًا من مصالح العرب.
فلن يحمينا إلا وعي شعبي يرفض صهينة إعلامه بأي شكل من الأشكال ويعيد القضية الفلسطينية لصدارة المشهد.