القسم السياسي

عملية استهداف ناقلة النفط “سكارليت راي” قبالة ميناء ينبع: قراءة استراتيجية

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

مقدمة

 

تُمثل عملية استهداف ناقلة النفط التابعة للكيان الصهيوني قبالة ميناء ينبع في الأول من سبتمبر 2025 محطة مفصلية في الصراع البحري المتصاعد في البحر الأحمر ومحيطه. فالحدث لم يكن مجرد واقعة تكتيكية عابرة في سياق معركة إسناد غزة ، لأنه هذه المرة حمل دلالات عسكرية وسياسية واقتصادية عميقة، تعكس تحولات في موازين القوى الإقليمية وقدرة الفاعلين غير التقليديين على إعادة تشكيل الجغرافيا الأمنية للممرات البحرية الدولية.

 

أولاً: البعد الجغرافي

 

يقع ميناء ينبع على الساحل الغربي للمملكة العربية السعودية، ويُعد من أهم الموانئ الاستراتيجية لنقل وتصدير النفط إلى الأسواق العالمية. الوصول إلى هذه النقطة عبر عملية صاروخية باليستية يعكس اتساع دائرة الاشتباك إلى مناطق تُعتبر تقليدياً بعيدة عن نطاق الصراع المباشر. إن اختيار هذا الموقع تحديداً يثبت أن الخطوط البحرية البديلة للكيان الصهيوني عبر البحر الأحمر لم تعد آمنة، وأن كامل الساحل السعودي بات ضمن معادلة الاستهداف.

 

ثانياً: الدلالات السياسية والإقليمية

 

العملية تعكس تحولاً في موقع المملكة العربية السعودية من مجرد طرف مراقب إلى طرف متورط في الصراع من خلال تقديم تسهيلات لوجستية للكيان الصهيوني. هذا التحول، الذي حاولت الرياض تقليص ظهوره في العلن، تم تعريته عبر الاستهداف المباشر أمام ميناء سعودي رئيسي. وبالتالي، لم يعد بإمكان السعودية فصل سياستها الإقليمية عن مسارات التصعيد البحري.

 

ثالثاً: التطور العسكري والتقني

 

إطلاق صاروخ باليستي لمسافة تتجاوز مئات الكيلومترات وصولاً إلى شمال البحر الأحمر يحمل مؤشرات متعددة:

 

 امتلاك القوات اليمنية لقدرات عملياتية متقدمة في مجال الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.

 

 توفر أنظمة متطورة للرصد البحري وتحديد الأهداف في بيئة مفتوحة ومعقدة.

 

 الانتقال من نطاق الردع المحلي إلى مستوى الردع الإقليمي، بما يشمل الموانئ البعيدة والخطوط البحرية الحيوية.

 

هذا البعد العسكري لا يشكل تهديداً للكيان الصهيوني فقط، فهو يطرح أيضاً تحديات مباشرة أمام القوى الغربية التي تعتمد على البحر الأحمر كممر رئيسي للتجارة الدولية ونقل الطاقة.

 

رابعاً: تداعيات على الكيان الصهيوني

 

الكيان الصهيوني كان يسعى إلى تجاوز المخاطر المرتبطة بمضيق باب المندب عبر إيجاد مسارات بحرية بديلة. العملية الأخيرة أوضحت أن هذه البدائل غير مجدية، وأن أي خط بحري بديل يمكن أن يصبح عرضة للاستهداف. وبهذا يتحول البحر الأحمر إلى ساحة تهديد دائم، ما ينعكس على أمن الكيان الاقتصادي ومكانته كفاعل تجاري يعتمد بشكل أساسي على حرية الملاحة.

 

خامساً: التأثير على السعودية

 

الرسالة الموجهة إلى الرياض شديدة الوضوح: الموانئ النفطية الاستراتيجية، مثل ينبع، يمكن أن تكون أهدافاً مباشرة في حال استمرار التورط في دعم الكيان الصهيوني. هذا يضع السعودية أمام مأزق مزدوج؛ فمن جهة هي ملزمة بتقديم التزاماتها للحلفاء الغربيين، ومن جهة أخرى تواجه تهديداً متزايداً لأمنها الاقتصادي الذي يعتمد بشكل رئيسي على صادرات النفط البحرية.

 

سادساً: الانعكاسات الدولية

 

العملية أحدثت صدى واسعاً لدى القوى الكبرى التي تنظر إلى البحر الأحمر باعتباره شرياناً حيوياً للتجارة العالمية. الضربة سلطت الضوء على هشاشة الأمن البحري في الممرات الدولية، وأظهرت أن الإجراءات العسكرية الغربية لم تنجح في توفير الحماية الكاملة للملاحة. هذا الواقع يفرض على المجتمع الدولي إعادة تقييم استراتيجياته في المنطقة، سواء عبر تعزيز الوجود العسكري أو عبر البحث عن تسويات سياسية تقلل من المخاطر.

 

سابعاً: الأبعاد الاقتصادية العالمية

 

تمثل العملية انعطافة ذات أبعاد اقتصادية لا تقل أهمية عن دلالاتها العسكرية والسياسية. فاستهداف ناقلة نفط قبالة ميناء ينبع ـ وهو أحد المنافذ الرئيسية لصادرات الطاقة السعودية نحو الأسواق الأوروبية والآسيوية ـ يثير مخاطر مباشرة على استقرار أسواق الطاقة العالمية وعلى كلفة النقل البحري.

 

أولاً، أسواق الطاقة الدولية:

 

 أي تهديد مباشر لموانئ المملكة أو خطوط الملاحة في البحر الأحمر ينعكس فوراً على أسعار النفط في البورصات العالمية.

 

 حالة عدم اليقين الناتجة عن الضربات البحرية تدفع المستوردين والمضاربين إلى رفع أسعار العقود الآجلة للنفط والغاز.

 

 هذه الاضطرابات تُضاعف من التوترات الاقتصادية العالمية، خاصة في ظل هشاشة الأسواق بعد أزمات متتالية مثل الحرب الأوكرانية والاضطرابات في سلاسل الإمداد.

 

ثانياً، قطاع الشحن والنقل البحري:

 

 شركات النقل تواجه مخاطر إضافية عند المرور عبر البحر الأحمر أو السواحل السعودية، ما يدفعها إلى إعادة النظر في المسارات واستخدام طرق أطول وأكثر كلفة مثل الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح.

 

 شركات التأمين البحري ترفع أقساط التأمين على السفن العابرة، مما يضيف أعباء مالية ضخمة على التجارة الدولية.

 

 هذا الارتفاع في الكلفة ينعكس بشكل مباشر على أسعار السلع المستوردة عالمياً، بما فيها الغذاء والمواد الخام.

 

ثالثاً، الاقتصاد السعودي:

 

 مع اعتماد المملكة بشكل رئيسي على الصادرات النفطية، فإن أي تهديد لموانئها البحرية يمثل خطراً استراتيجياً على إيراداتها.

 

 استمرار هذا النوع من العمليات قد يضع السعودية أمام ضغوط اقتصادية متزايدة، سواء عبر انخفاض حجم صادراتها أو عبر ارتفاع كلفة تأمينها.

 

 هذه الضغوط قد تحد من قدرتها على تنفيذ مشاريعها الاقتصادية الكبرى المرتبطة بـ”رؤية 2030”.

 

رابعاً، المعادلة العالمية:

 

 القوى الغربية والشرقية على حد سواء ترى في البحر الأحمر ممراً حيوياً لسلاسل الإمداد، وبالتالي فإن أي تعطيل متكرر يعزز من توجهات نحو إعادة رسم طرق التجارة العالمية.

 

 العملية تثبت أن قوة إقليمية مثل اليمن قادرة على التأثير في أسواق الطاقة والاقتصاد الدولي، ما يجعلها لاعباً لا يمكن تجاهله في أي ترتيبات مستقبلية تخص أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية.

 

ثامناً: تأثير العملية على الاستعدادات العسكرية لمواجهة أي عدوان صهيوني محتمل على إيران

 

العملية البحرية قبالة ميناء ينبع لا يمكن فصلها عن البيئة الاستراتيجية الأوسع في المنطقة، ولا سيما في ظل التهديدات المتكررة من قبل الكيان الصهيوني بشن ضربات عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ضمن هذا السياق، يتضح أن العملية تحمل انعكاسات مباشرة على معادلة الردع وعلى الاستعدادات الإقليمية لأي مواجهة واسعة قادمة.

 

أولاً، إعادة توزيع مصادر التهديد:

 

 العملية أكدت أن الكيان الصهيوني لا يواجه تحدياً واحداً متمثلاً بإيران، بل شبكة متكاملة من القوى الإقليمية التي تستطيع ضربه في نقاط متعددة.

 

 هذا التنوع في مصادر التهديد يجعل التخطيط لأي عدوان على إيران محفوفاً بمخاطر فتح جبهات بحرية وبحرية ـ برية متزامنة.

 

ثانياً، تعزيز محور الردع المتعدد الساحات:

 

 وصول الصواريخ اليمنية إلى شمال البحر الأحمر يضيف بعداً جديداً إلى منظومة الردع التي تعتمدها طهران وحلفاؤها.

 

 الكيان الصهيوني يدرك أن أي تصعيد ضد إيران قد يستجلب ردوداً من جبهات مختلفة: من غزة ولبنان شمالاً، ومن البحر الأحمر جنوباً، ومن العراق شرقاً.

 

 بذلك تتحول أي حرب ضد إيران إلى حرب إقليمية شاملة، وهو ما يزيد من كلفة القرار العسكري بالنسبة لتل أبيب وحلفائها.

 

ثالثاً، تغيير حسابات التحالفات الغربية:

 

 الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتان تعتبران الداعمين الرئيسيين لأي تحرك عسكري ضد إيران، مضطرتان اليوم لأخذ البعد اليمني بعين الاعتبار.

 

 استهداف خطوط الملاحة النفطية أو العسكرية في البحر الأحمر أثناء أي حرب إقليمية سيؤثر بشكل مباشر على القوات الغربية نفسها، وليس على الكيان وحده.

 

رابعاً، رسالة ردع استباقية:

 

 العملية قبالة ينبع بمثابة إنذار مبكر بأن أي عدوان على إيران لن يبقى محصوراً في الجغرافيا الإيرانية.

 

 اليمن أظهر عملياً أنه قادر على ضرب المصالح الحيوية للكيان الصهيوني وحلفائه في أي لحظة، ما يجعل قرار الحرب أكثر تعقيداً وأقل احتمالاً.

 

في ضوء ما سبق، تكشف عملية استهداف ناقلة “سكارليت راي” قبالة ميناء ينبع عن تحوّل نوعي في معادلات القوة الإقليمية، حيث لم تعد الجغرافيا البحرية محصورة بباب المندب أو جنوب البحر الأحمر، بل باتت ساحة ممتدة تُعيد صياغة توازنات الردع على مستوى المنطقة بأكملها. لقد أثبتت القوات اليمنية أن قدرتها الصاروخية تتجاوز البعد التكتيكي إلى بعد استراتيجي قادر على التأثير في الأمن الاقتصادي والسياسي للخصوم، وفي الوقت نفسه رفعت منسوب التعقيد أمام أي مشروع عدواني جديد يستهدف إيران أو محور المقاومة.

هكذا، تترسخ معادلة أن الممرات البحرية الدولية، بما تحمله من مصالح نفطية وتجارية، لن تبقى آمنة في ظل استمرار الانخراط في دعم الكيان الصهيوني، وأن أي مواجهة مستقبلية في المنطقة ستتجاوز حتماً حدود الجغرافيا التقليدية لتتحول إلى صراع شامل متعدد الساحات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى