القسم السياسي

طهران بين العقوبات والابتكار!

✍️ حوراء المصري:

 

منذ عقود، وطهران تقف في قلب العاصفة السياسية في الشرق الأوسط، إلا أنها اختارت أن تواجه العزلة الدولية بطريقة أخرى، ألا وهي تطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية بعيدًا عن الآخرين ودون الحاجة لأي يد خارجية، مما منحها قوة وحماية لا تُكسر عبر الزمن، فكان الغرب بعقوباته يفترض شل قدرات الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلا أن محاولاته باءت بالفشل.

 

فاليوم طهران بما تمتلكه من صواريخ وطائرات مسيرة وقدرات سيبرانية، والتي منحتها دورًا مهمًا وفعالًا في المنطقة، فأعادت رسم معادلات الردع وموازين القوى في الشرق الأوسط. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف تحولت إيران من دولة محاصرة بالعقوبات إلى قوة عسكرية تخيف خصومها؟

 

“إيران الأمة الصابرة”

 

منذ قديم الأزمان والجمهورية الإسلامية يُضرب بها المثل في صبرها، فلا يمكن فهم القوة التي توصلت لها إيران دون العودة إلى جذورها التأريخية والتجارب الحربية التي خاضتها، أبرزها الحرب العراقية _الإيرانية 1980 – 1988، والتي تعد نقطة تحول مفصلية في قوة طهران.

 

شكّلت الحرب العراقية الإيرانية تجربة فريدة من نوعها، فقد امتدت ثماني سنوات، وهي مدة طويلة نسبيًا، فوجدت نفسها داخل حلقة استنزاف عسكري وبشري، فضلًا عن انعزالها عن القوى الدولية آنذاك. هذا الواقع دفع القيادة الإيرانية إلى قناعة راسخة وهي الاعتماد على الذات، فطورت قدراتها العسكرية رغم ضعف الإمكانيات التي تمتلكها لكي لا تبقى رهينة الضغوطات الخارجية.

 

مع مطلع التسعينيات وزيادة الضغوطات الأمريكية وبعض حلفائها، والتي قامت بحظر تصدير أي تكنولوجيا متقدمة لإيران، دفعها ذلك إلى تفعيل إستراتيجية الاعتماد على العقول المحلية، فأخذت تكثف برامج الدراسة لتخريج مهندسين في مجالات الطيران، والإلكترونيات، والفيزياء النووية، وذلك لتأمين استقلالية في المجالات الحساسة.

 

مع مرور الوقت وسّعت إيران علاقاتها لتطال كوريا الشمالية والصين فضلًا عن روسيا، إلا أنها، مع وجود هذه التحالفات، أبقت على اكتفائها الذاتي، مما جعل بعض الدول هي من بحاجة لإيران لا العكس.

 

مع تزايد التضييقات الغربية وفرض عقوبات مشددة أكثر، بقيت إيران في سدة التطورات، فعملت على تطوير برامج وأسلحة عسكرية وبنية تحتية صلبة.

 

فرغم المحاولات الغربية لخنق إيران، إلا أنها حافظت على تطوير قدراتها النووية والعسكرية، وهو ما جعلها اليوم رقمًا صعبًا في معادلة الأمن الإقليمي. فإلى أي مدى وصلت الجمهورية الإسلامية بقدراتها العسكرية والتكنولوجية؟

 

“إيران ورحلة التطوير”

 

رغم كل الضغوطات والمحاولات الأمريكية والغربية للإطاحة بالجمهورية الإسلامية عبر منعها وتضييق حركتها الدولية بما يجعلها في عزلة تامة عن العالم الخارجي، باءت هذه المحاولات بالفشل الذريع. فإيران، باعتمادها على قوتها الذاتية، فضلًا عن تطوير قدرات مزدوجة الاستخدام يمكن الاستفادة منها في الميادين العسكرية والمدنية في الوقت نفسه، صنعت لنفسها طريقًا خاصًا.

 

كانت هذه التطورات على عدة أشكال، أبرزها:

 

 “طائرات شاهد ومهاجر الإيرانية”

 

تُعد الطائرات المسيرة، المعروفة بالـ “درونز”، من أبرز الابتكارات الإيرانية التي ساعدتها على استهداف أماكن حساسة دون التعرض لخسائر بشرية. فطورت الكثير منها، كما أنها أطلقت أسماء على كل منها كـ “شاهد” و”مهاجر”، والتي أثبتت فعاليتها في ساحات مختلفة كاليمن وسوريا والعراق. والجدير بالذكر أن بعض هذه الطائرات وصلت لمدى استراتيجي يشكل تهديدًا على الكيان الصهيوني والقواعد الأمريكية في المنطقة، مما جعل الكيان أكثر حذرًا في التعامل مع الجمهورية الإسلامية وحلفائها.

 

 “صواريخ باليستية”

 

تُعتبر إيران اليوم واحدة من أكثر الدول تطورًا في البرامج الصاروخية، فهي تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة الجوية، وطورت صواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى كـ “فاتح” و”سجيل” فضلًا عن “قدير”. كل هذه الصواريخ المتطورة شكّلت تهديدًا كبيرًا على الاحتلال الغاشم، فهي قادرة على دك الأراضي المحتلة بكل قسوة، وهو ما يفسر إصرار الغرب على كسر قوة الردع الإيرانية ومحاولة منعها من تطوير قدرات أكثر فتكًا كالقنبلة النووية.

 

 “إيران والقدرات السيبرانية”

 

لم تكتفِ إيران بتطوير قدراتها العسكرية، بل عملت جاهدًا على تطوير قوتها الإلكترونية التي كانت حكرًا على الغرب والولايات المتحدة. يُعتقد أن إيران تمتلك غرفًا خاصة بالهجمات السيبرانية والدفاع الرقمي، تمتلك قدرة على استهداف البنى التحتية الحيوية للكيان. فقد شنت إيران العديد من الهجمات على البنى التحتية للصهاينة، مما دفع الكيان لإيلاء أهمية كبيرة للقدرات الإيرانية والتعامل معها بحذر شديد.

 

 “النووي الإيراني… كابوس الغرب”

 

لم تقف طهران عند أعتاب التطورات العسكرية والتكنولوجية، بل دخلت إلى عمق التطورات العالمية كالنووي، فعملت على تطوير قدرتها في هذا المجال عبر تطوير منشآت نووية وتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية بكميات كبيرة، مما جعل الملف النووي الإيراني أحد أبرز أوراق الضغط والمساومة بين طهران والغرب.

 

“الردع الإيراني: في مواجهة ردود الفعل العالمية والإقليمية”

 

إن تطور القدرات العسكرية والتقنية لإيران لم يمر مرور الكرام، فقد أحدث قلقًا واسعًا في المنطقة والعالم بأسره. وتنوعت هذه الردود بين ضغوطات اقتصادية وعقوبات دولية فضلًا عن التعزيز العسكري لبعضها:

 

 “الكيان الصهيوني وخوفه من طهران”

 

الكيان الصهيوني يعتبر التطور العسكري للجمهورية الإسلامية، وبالأخص التطورات الصاروخية، تهديدًا وجوديًا، مما دفعه لتعزيز أنظمته الجوية كإنشاء القبة الحديدية وغيرها من الأسلحة الجوية والدفاعية.

 

إن هذا القلق لم يطل الكيان فحسب، بل كذلك دول الخليج التي تعتبر إيران ألد أعدائها، فعمدت دول كالسعودية والإمارات والبحرين إلى تعزيز دفاعاتها الجوية بمساعدة أمريكية عبر زيادة النشاط والتعامل مع واشنطن.

 

زاد هذا القلق لدى الغرب وأمريكا بعدما دعمت إيران حلفاءها الإقليميين في المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان فضلًا عن اليمن، عبر تقديمها أسلحة متقدمة.

 

فضلًا عن التدخل العسكري لإيران في المنطقة، ولا سيما في ظل وجود الإرهاب، جعلت هذه المساعدات والتدخلات سباق التسلح ينشط من جديد. فخوف بعض الدول من التطور الإيراني دفعها لزيادة قدراتها خشية الردع الإيراني.

 

هذه القدرات جعلت بعض القوى تنسج تحالفات عسكرية واستخباراتية لمواجهة النفوذ الإيراني، مما أدى لتقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ متنافسة.

 

“القوة الإيرانية وتأثيرها على الشرق الأوسط”

 

إن هذا التطور لم يعد رهينة الداخل الإيراني، بل أصبح لاعبًا مهمًا في رسم موازين القوى في المنطقة، فأثر على الجوانب الأمنية والاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط. فدعمه للمقاومة جعل من المخاوف الغربية تتفاقم، مما جعل الغرب وأمريكا مجبرين على الموازنة بين فرض عقوباتهما والتهدئة من جانب آخر. فالقوى الكبرى أصبحت تدرك أن أي إستراتيجية تطمح لتطبيقها على الشرق الأوسط يجب أن تأخذ بعين الاعتبار القدرات الإيرانية التي أصبحت كرأس حربة في وجه الهيمنة الغربية.

 

أخيراً، رغم كل هذه الضغوطات الغربية والإقليمية التي تواجهها الجمهورية الإسلامية، حافظت على تطوير قدراتها العسكرية والتقنية. فأثبتت إيران أن العقوبات والحصار يمكن أن يتحولا من عزلة إلى دافع لبناء بلد قوي لا يحتاج إلى المساعدة الخارجية، وأن الاعتماد على الذات والمواهب المحلية أفضل من الرضوخ للهيمنة الأجنبية بحجة تقديم العون. لذا اليوم، طهران تشكل دورًا مهمًا في قلب وتغيير موازين القوى وكسر السيطرة التي تطمح الدول العظمى لتطبيقها على الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى