القسم السياسي

لن تكون هناك دولة فلسطينية أبداً. فما الذي يلي ذلك؟

✍️إليوت أبرامز:

 

لم يكن يوم السابع من أكتوبر يوم استقلال فلسطين، بل المسمار الأخير في نعش حلّ الدولتين. فهل لم يعد يتبقى سوى خيار الكونفدرالية مع الأردن؟

 

في وقت لاحق من هذا الشهر، وبالتزامن بدقة مع رأس السنة العبرية (روش هشانا)، ستجتمع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسيلقي الرئيس الفرنسي خطاباً يعترف فيه بـ”فلسطين” كدولة. ستكون فرنسا الدولة رقم 148 (بحسب معظم الإحصاءات) التي تعترف بدولة لا وجود لها ولن يكون لها وجود أبداً—“دولة” بلا حدود، بلا حكومة، بلا اقتصاد، ولا سيطرة على أراضيها المزعومة.

 

النرويج وإسبانيا وإيرلندا وسلوفينيا اعترفت بفلسطين في مايو/أيار 2024 في مكافأة واضحة لهجوم حماس الإرهابي في أكتوبر/تشرين الأول 2023. المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ستنضم إلى فرنسا، وربما تلحق بها عشرات الدول الأخرى. هذه الأفعال من “الاعتراف” لا تفيد الفلسطينيين بشيء. هدفها وتأثيرها المعتاد هو الإضرار بإسرائيل، سواء بلومها على حرب غزة أو بجعل إنهاء تلك الحرب أكثر صعوبة. وكما قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في أغسطس: “انهارت المحادثات مع حماس في اليوم الذي اتخذ فيه ماكرون القرار الأحادي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.”

 

خطوة الرئيس إيمانويل ماكرون، ومعه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، هي في الأساس قضايا سياسة داخلية—ردود على انخفاض معدلات شعبيتهم ووجود جاليات مسلمة كبيرة في بلدانهم. ويبدو أنهم لم ينتبهوا إلى أنهم يساهمون في قناعة فلسطينية مفادها أن العنف الوحشي وحده هو الذي سيخلق طريقاً إلى الأمام. وللدفاع عن نفسه من مثل هذا الانتقاد، صرّح ماكرون قائلاً: “لا بديل عن إقامة الدولة الفلسطينية”، وأعلن في يوليو أنه “في ضوء التعهدات التي قدّمها لي رئيس السلطة الفلسطينية، كتبت إليه لأعبّر عن عزمي على المضي قدماً.”

 

ما هي التعهدات الرسمية التي قدّمتها السلطة الفلسطينية لرئيس فرنسا؟ “الوفاء بكل مسؤولياتها في الحكم على جميع الأراضي الفلسطينية بما فيها غزة، وإجراء إصلاحات جوهرية، وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في 2026 لتعزيز مصداقيتها وسلطتها على الدولة الفلسطينية المستقبلية.” وقال رئيس الوزراء الكندي مارك كارني لشبكة CNN إن “كندا تعتزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية… لأن السلطة الفلسطينية التزمت بقيادة الإصلاح المطلوب بشدة.” أما ألبانيزي فقد تحدث عن “تعهدات جديدة كبرى من السلطة الفلسطينية”، وأعلن أن “رئيس السلطة الفلسطينية قد أعاد تأكيد هذه التعهدات مباشرة للحكومة الأسترالية.” وبالمثل، بينما يدين ما يسمى بـ”إعلان نيويورك”، الذي تم تبنيه في 30 يوليو من قبل جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي وأكثر من اثنتي عشرة دولة أخرى، هجمات 7 أكتوبر ويدعو لإزالة حماس من السلطة، فإنه يطالب بإقامة دولة فلسطينية تحت سلطة فلسطينية “مصلحة” ستواصل “تنفيذ أجندة إصلاح موثوقة.”

 

من الصعب ألا يسخر المرء من كل تلك “التعهدات” بأجندة إصلاح “موثوقة” من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي كررها مراراً وتكراراً طوال ما يقارب عشرين عاماً بصفته رئيساً لحركة فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية. فالسلطة الفلسطينية ليست أقرب إلى حكم غزة مما كانت عليه منذ يونيو 2007 حين طردتها حماس من هناك، ولا هي أقرب إلى أي إصلاح جذري. كما قال ماكرون أيضاً إننا “يجب أن نبني دولة فلسطين (ونضمن قابليتها للحياة)”، ويبدو أنه لم يخطر بباله أن يقترح أن على الفلسطينيين هم “بأنفسهم أن يبنوا دولة فلسطين ويضمنوا قابليتها للحياة.”

 

لماذا، بعد 80 عاماً من محاولات تقسيم الأرض المقدسة، لم تُنشأ دولة فلسطينية أبداً؟ ولماذا أنا مقتنع أن هذا الهدف لن يتحقق قط؟ عشرات الدول الجديدة نشأت منذ الحرب العالمية الثانية. فما هو الفريد في الصراع من أجل “فلسطين” الذي حكم عليه بالفشل؟ وما هي البدائل المطروحة؟

 

ورغم أن تركيزي الأساسي هنا على الضفة الغربية، فإن معظم التحليل التالي ينطبق كذلك على غزة.

 

القسم الأول

 

إنّ “حلّ الدولتين” هو فرع من الفكرة الأقدم، أي فكرة التقسيم—تقسيم “الانتداب البريطاني على فلسطين” إلى أراضٍ يهودية وأخرى عربية. فشرق الأردن، الذي كان انتداباً منفصلاً بيد بريطانيا، وأصبح اليوم المملكة الأردنية الهاشمية، وُلد سنة 1946، وفي نوفمبر 1947 صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إنشاء دولتين جديدتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية. اليهود قالوا نعم، والعرب قالوا لا.

 

هناك الكثير مما يمكن قوله عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، لكن جوهره في عام 2025 ما زال كما كان في عام 1947: العرب قالوا لا.

 

علّق دانيال بايبس على هذا الأمر مراراً، واصفاً ما سمّاه “الرفض الإبادي” لدى الفلسطينيين. لماذا لم ينتصر السلام ولا الدولة الفلسطينية؟ في السنوات الأولى كتب بايبس: “السكان المحليون، الذين نسميهم الآن الفلسطينيين، لم يريدوا اليهود هناك وقالوا لهم اخرجوا. فردّ الصهاينة قائلين: لا، نحن غربيون حداثيون، يمكننا أن نأتيكم بالماء النظيف والكهرباء. لكن الفلسطينيين تبنوا سياسة الرفض، وقالوا: لا، نريد قتلكم؛ سنطردكم بعيداً.”

 

منذ أكثر من قرن، شرح الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي أنّ هذا هو الرد الذي يجب أن يتوقعه اليهود على مثل هذه العروض للتقدم الاقتصادي، رغم أنّه كان يعتقد أنّ الموقف سيتغيّر مع مرور الزمن. لكن لم يتغيّر شيء تقريباً، كما يكتب بايبس:

 

“لم ينجح الأمر لأنه لا يمكن أن ينجح. إذا كان عدوك يريد القضاء عليك، فلن يقنعه أن تقول له إنك ستجلب له ماءً نظيفاً. المدهش أن الفلسطينيين احتفظوا بهذه النزعة الإبادية لفترة طويلة. كَمؤرّخ أقول إن هذا أمر فريد؛ لم يحدث أن احتفظ شعب آخر بمثل هذا القدر من العداء لفترة بهذا الطول.”

 

يمكن مهاجمة مثل هذه الآراء، وقد هوجمت كثيراً، على أنها آراء صهيونية ومحافظة. لكن استنتاج بايبس نال دعماً من مصدر غير متوقع: حسين آغا وروبرت مالي، اللذان ألّفا كتاباً بعنوان: الغد هو الأمسالحياة والموت والسعي إلى السلام في إسرائيل/فلسطين، عن عقود من جهودهما الفردية والمشتركة لدفع فكرة الدولة الفلسطينية.

 

كان آغا مقرّباً وموضع ثقة، ومفاوضاً رئيسياً لياسر عرفات. نشأ في بيروت، ويحمل الآن جواز سفر بريطانياً (بعد أن كان لديه سابقاً الجنسية اللبنانية والعراقية)، عضو في حركة فتح منذ عام 1968، تلقّى تعليمه في جامعة أوكسفورد، وعمل على مدى 25 عاماً مع كلية سانت أنطوني هناك. كان آغا، الداهية واللطيف، مستشاراً للقيادة الفلسطينية وشارك في المحادثات منذ مؤتمر مدريد عام 1991 حتى مفاوضات جون كيري عام 2014.

 

أما مالي، فهو ابن يهودي مصري يساري متطرف ومعادٍ للصهيونية، وقد عمل مساعداً خاصاً للرئيس لشؤون الصراع العربي-الإسرائيلي في عهد إدارة كلينتون، ثم مستشاراً رئيسياً ومفاوضاً في الشرق الأوسط لدى باراك أوباما. عمل مالي وآغا كلٌّ لفريقه، للتحضير لقمة كامب ديفيد عام 2000، ثم تعاونا معاً في مقالة مشهورة في نيويورك ريفيو أوف بوكس في أغسطس 2001، دافعا فيها عن عرفات ورفضا الرأي (الذي تبناه الرئيس كلينتون ومعظم المشاركين الأميركيين) أنّ عرفات كان مسؤولاً عن فشل جهود السلام.

 

أحدث تعاونهما كان مقالة في مجلة نيويوركر في أغسطس الماضي، استندت بشكل كبير إلى الكتاب، لكنها أضافت إدانات جديدة واستثنائية الحدة ضد إسرائيل. وكأنهما يخشيان أن تكون الأحكام المتوازنة حول تاريخ المفاوضات في كتابهما، المقرر نشره في 16 سبتمبر، قد أصبحت قديمة—وأن عليهما الانضمام إلى الجوقة لكي لا يُتَّهما بعدم الحماس الكافي ضد الدولة اليهودية. يبدو أن زمن التأمل المتأنّي قد انتهى.

 

لكن في كتابهما يكتبان أنّ “فكرة التقسيم الإسرائيلي-الفلسطيني إلى دولتين لها أصل مثير ومعقّد وغريب. ما لم تكن أبداً، باستثناء فترة قصيرة نسبياً، مطلباً فلسطينياً أو يهودياً محلياً.” وذلك لأنّ “حل الدولتين ليس المحطة الطبيعية لا للإسرائيليين ولا للفلسطينيين [و] يتعارض مع جوهر هويتهم الوطنية وتطلعاتهم.” هذا صحيح، لكن الصهاينة في عام 1948 قدّموا تنازلاً وأخذوا ما عرضته الأمم المتحدة. الفلسطينيون لم يفعلوا ذلك.

 

الفلسطينيون لم يريدوا العيش بسلام مع اليهود، لذلك فشل قرار تقسيم الأمم المتحدة عام 1947، فضلاً عن مساعٍ لاحقة مثل عملية أوسلو (التي صُمِّمت للتعامل مع مكاسب إسرائيل في 1967)، في معالجة المشكلة الأساسية. آغا ومالي ينقلان عن عرفات قوله: “لسنا معنيين بما جرى في يونيو 1967 ولا بإزالة آثار حرب يونيو.” أي أنّ “الاحتلال” الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة بعد حرب الأيام الستة، والذي يكرره منتقدو إسرائيل في الخارج (بل وبعض مؤيديها) على أنه خطيئتها الكبرى، لم يكن المشكلة التي أراد عرفات حلّها؛ إنما كان اعتراضه على وجود إسرائيل نفسها. كيف نعلم أنّ هذا صحيح؟ يعلّقان قائلين: “لو كان الأمر غير ذلك، لما كان الفلسطينيون واليهود قد تقاتلوا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حين لم تكن هناك دولة إسرائيل؛ ولما كانت الدول العربية قد حاربت إسرائيل في 1948، حين اقترح مشروع التقسيم دولة فلسطينية؛ ولما كان الفلسطينيون قد امتنعوا عن صنع السلام بين 1948 و1967، حين لم تكن الضفة الغربية وغزة في أيدي إسرائيل.”

 

بمعنى آخر، المشكلة ليست التحدي الفني في ترسيم الحدود ولا فشلاً دبلوماسياً يمكن إذا عُولج أن يؤدي إلى دولة فلسطينية. المشكلة أن القومية الفلسطينية تدور في جوهرها حول تدمير الدولة اليهودية، لا بناء دولة فلسطينية. في خطابه الشهير بجامعة بار-إيلان عام 2009، قال بنيامين نتنياهو: “هذا هو جذر الصراع، هذا ما يُبقيه حيّاً، وجذر الصراع كان وما يزال، على مدى أكثر من 90 عاماً، الاعتراض العميق من قِبل النواة الصلبة من الفلسطينيين على حق الشعب اليهودي في أن تكون له دولة خاصة به في أرض إسرائيل.” بناء الدولة لم يكن أولوية فلسطينية، وغياب الدولة ليس سبب الصراع.

 

وهذا ما يُخطئ فيه ماكرون وستارمر وكارني وألبانيزي، ومعهم كثير من “معالجي السلام” السابقين. إذ إن منطق حججهم، إن كان لها منطق، يسير هكذا: هناك صراع إسرائيلي-فلسطيني لأن الفلسطينيين يريدون دولة مستقلة يمارسون فيها حقهم في تقرير المصير في وطنهم، ولتحقيق ذلك يجب على إسرائيل أن تتنازل عن “الأرض مقابل السلام”. فإذا حصل الفلسطينيون على دولة، ستتم معالجة مظلمتهم الأساسية ولن يكون هناك حاجة للعنف مثل عنف 7 أكتوبر والحرب التي تلته. وحماس تجذب الفلسطينيين الآن لأنها تقنعهم بأن العنف وحده سيحقق الدولة. فإذا مُنحت السلطة الفلسطينية دولة، ستضعف حماس، وتنتهي أسباب الصراع، ويحل السلام.

 

لكن رغم أنّ هذا المنطق يبدو متماسكاً داخلياً، فإن كل الأدلة تناقضه. فإذا كان بايبس ونتنياهو محقّين—ومالي وآغا يبدو أنهما يعتقدان ذلك—فإن الدولة الفلسطينية لن تُرضي تطلعات الفلسطينيين لأنها ستبقى مضطرة للوجود إلى جانب إسرائيل. حل الدولتين يعالج المشكلة الخاطئة.

 

قد يعترض البعض على هذا التحليل بالقول إنه في اتفاقيات أوسلو عام 1993، توصّل الإسرائيليون والفلسطينيون فعلاً إلى اتفاق، إلى “تفاهم” حول السلام وحلّ الدولتين. لكن الواقع غير ذلك. ما يُسمى “أوسلو الأولى” أنشأ السلطة الفلسطينية، ووافق على بدء مفاوضات حول كل ما هو مهم: “ستبدأ مفاوضات الوضع الدائم في أقرب وقت ممكن… ومن المفهوم أن تغطي هذه المفاوضات القضايا المتبقية، بما فيها: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع الجيران الآخرين، وقضايا أخرى ذات اهتمام مشترك.” أي لم يكن هناك اتفاق على أي من القضايا الجوهرية التي قسمت الطرفين.

 

آغا ومالي يكتبان أنّه كان هناك وثيقة موقَّعة، لكن تلك التواقيع “خدمت لإخفاء الانقسام بينهما حول قضايا أساسية مثل حقوق اللاجئين، وصفات الدولة الفلسطينية، وشرعية دولة إسرائيل. الإجماع السطحي أشار إلى استمرار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بوسائل أخرى.” أما كاتفاق على إقامة دولة فلسطينية، فلا يُذكر مثل هذا الهدف في أي موضع من اتفاقيات أوسلو.

 

لقد مضى الآن أكثر من 30 عاماً على اتفاقيات أوسلو، وقد فشلت. كانت على ما يبدو الذروة في التفاهم والاتفاق الإسرائيلي-الفلسطيني، لكن ما جرى منذ ذلك الحين يبيّن أن وعودها كانت فارغة. كما كتب ديفيد وينبرغ: “بعد ثلاثين عاماً ومليارات الدولارات واليورو، كانت عوائد الاستثمار الغربي في استقلال فلسطين كارثية. فلا ديمقراطية، ولا حكم قانون، ولا شفافية، ولا استدامة، ولا استثمار في الاستقرار الاقتصادي، ولا تعليم للسلام في السلطة الفلسطينية.” وفي افتتاحية لمجلة الإيكونوميست في سبتمبر 2023، قيل إن “الإنجازات الدائمة” لأوسلو كانت “إنشاء حكومة فلسطينية محدودة يكرهها معظم الفلسطينيين.”

 

هذه استنتاجات قاتمة، لكن معظم الفلسطينيين يتفقون معها. فقد أظهر استطلاع أجراه خليل الشقاقي، أبرز محلل استطلاعات فلسطيني، في سبتمبر 2023، أنّه “بعد ثلاثين عاماً من توقيع اتفاقيات أوسلو، نحو ثلثي الناس يصفون الظروف اليوم بأنها أسوأ مما كانت قبل الاتفاق؛ وثلثان يرون أنه ألحق الضرر بالمصالح الوطنية الفلسطينية؛ وثلاثة أرباعهم يعتقدون أن إسرائيل لا تطبقه؛ وغالبية تؤيد التخلّي عنه.” الفلسطينيون يقولون إن السلطة الفلسطينية عبء عليهم أكثر منها رصيد، بنسبة 60 إلى 35 بالمئة. 57 بالمئة يعارضون حل الدولتين (رغم أن الدعم يرتفع إذا وُعدوا بحدود 1967 بما فيها القدس).

 

كما أنّ 41 بالمئة (وهي النسبة الأكبر) عندما سُئلوا عن كيفية إنهاء الاحتلال، فضّلوا “الكفاح المسلح”، وهذا يعيدنا إلى مسألة العنف وإشارة بايبس القاسية إلى “الرفض الإبادي”. كما أوضحت، يزعم أنصار حل الدولتين أنّ قيام دولة فلسطينية سينهي العنف الفلسطيني. ويقولون إن ذلك سيؤدي، وفق الصيغة الشائعة، إلى “دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن.” لكن إذا كان هدف ذلك العنف هو تدمير دولة إسرائيل، لا إقامة دولة مستقلة، فلماذا لا يستمر العنف (أو يزداد) عبر حدود دولة فلسطينية مستقلة، كما كان يحدث عبر حدود الضفة الغربية وغزة؟ ولماذا لا يشجع الفلسطينيين على الاعتقاد أن “الخطة المرحلية” القديمة، كما شرحها المؤرخ إفرايم كرش، أي أخذ “أي أرض تكون إسرائيل مستعدة أو مجبرة على التنازل عنها، واستخدامها كمنصة للانطلاق نحو مكاسب إقليمية إضافية حتى تحقيق التحرير الكامل لفلسطين”، هي خطة ناجحة؟

 

في كتابهما، لا يحاول آغا ومالي التقليل من شأن العنف الفلسطيني. عن عرفات، الذي عرفه آغا جيداً، يقولان إنه “كان يؤمن بحلّ تفاوضي [لكن] كان متمسكاً أيضاً بفكرة أنّ العنف ضروري للوصول إلى تلك النتيجة.” أما بالنسبة للانتفاضة الثانية، التي قتلت أكثر من ألف إسرائيلي وثلاثة آلاف فلسطيني، فيكتبان أنّ عرفات كان يرى أنّ “المواجهة المسلحة لن تضرّ.

من يدري، قد تنفع.” ولم يتغيّر الكثير منذ ذلك: فبالنسبة لفتح، التي ما زالت الحزب الحاكم في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، فإنهما يقيّمان أنّ “ما يميّز حماس عن فتح ليس لجوؤها إلى العنف، بل عقيدتها الدينية. فمنذ البداية، كانت السمة المميزة لفتح هي الكفاح المسلح، غالباً دون اكتراث بما إذا كان ضحاياها مدنيين أم عسكريين.” ويخلصان إلى أنّ “في العمق، ورغم أوسلو، لم تتصالح فتح أبداً حقاً مع فكرة التخلي عن السلاح.”

 

والأكثر إثارة ما كتباه عن مجازر حماس في 7 أكتوبر 2023: “لم يكن 7 أكتوبر حدثاً خاصاً بحماس ولا مميزاً بالإسلاموية. لقد كان فلسطينياً بالكامل.” ومرة أخرى: “لا يمكن إنكار أن الفلسطينيين في معظمهم احتضنوا أحداث 7 أكتوبر لأنها عبّرت عن مشاعرهم الأعمق. لقد كان 7 أكتوبر فلسطينياً في الجوهر.”

 

هذا هو الوضع الآن، بعد 30 عاماً على أوسلو و77 عاماً على قرار التقسيم الأممي. ما زال اهتمام “المجتمع الدولي”، وضغوط الولايات المتحدة غالباً، ينصبّ على ما يمكن لإسرائيل أن تفعله أو تُجبر على فعله، بينما تؤخذ التعهدات الفلسطينية الفارغة (مثل الأخيرة المقدمة إلى ماكرون وكارني وألبانيزي) على محمل الجد. لكن جوهر المشكلة يبقى الواقع والإمكانات على الجانب الفلسطيني. فهل سيتخلى المجتمع الفلسطيني يوماً عن دعم العنف والإرهاب؟ هل ستُستبدل أحلام تدمير إسرائيل بجهود لبناء دولة حقيقية؟ هل سيحل رجال الأعمال والمسؤولون النزهاء والأطباء والمحامون والمهندسون محل القتلة الإرهابيين كأكثر المواطنين مكانة؟

 

كما أشارت إينات وِلف مؤخراً: “هناك أشخاص قادرون تماماً في غزة، كما رأينا في 7 أكتوبر. تلك المجزرة تطلبت مليارات الدولارات، سنوات من الاستثمار في البنية التحتية، قيادة، استراتيجية، ورؤية—وإن كانت رؤية منحرفة إلى أقصى حد. ما يُظهره ذلك أنّ سكان غزة لا يفتقرون إلى القدرة أو الموارد، بل مشكلتهم أيديولوجية.”

 

منذ الأيام الأولى للحركة الصهيونية، مروراً بالحاج أمين الحسيني، وصولاً إلى عرفات، وحتى اليوم، كانت القومية الفلسطينية بل وحتى الهوية الفلسطينية ارتدادية وسلبية: قائمة على التدمير لا البناء. ولهذا السبب لا توجد دولة فلسطينية.

 

القسم الثاني

 

لقد أُنشئت السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات أوسلو لتغيير هذا الواقع. كان من المفترض أن يوظّف الفلسطينيون طاقاتهم الخلّاقة في كلٍّ من الضفة الغربية وغزة لبناء مؤسسات الحكم الذاتي. وقد تبنّت الولايات المتحدة رسميًا هدف إقامة الدولة الفلسطينية خلال إدارة جورج دبليو بوش. فقد نصّت خريطة الطريق التي صدرت عام 2003، وعنوانها الرسمي: خريطة طريق قائمة على الأداء نحو حل دائم يقوم على دولتين للصراع الإسرائيليالفلسطيني، على أن تكون الدولة الفلسطينية هدفها النهائي. لكن تحقيق هذا الهدف كان مشروطًا بسلوك الفلسطينيين:

 

«لن يتحقق حل الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إلا بإنهاء العنف والإرهاب، عندما يكون للشعب الفلسطيني قيادة تتصرف بحزم ضد الإرهاب، وقادرة وراغبة في بناء ديمقراطية عملية قائمة على التسامح والحرية.»

 

كان من المفترض أن تُكتسب الدولة الفلسطينية، لا أن تُمنح. ولتحقيق هذا الهدف، فرض بوش استحداث منصب رئيس الوزراء، بهدف تقليص سلطة ياسر عرفات الذي كان يحافظ على البُنى الفاسدة التي ميّزت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وفتح، والشروع في بناء مؤسسات الدولة. وقد شغل محمود عباس منصب رئيس الوزراء لفترة قصيرة قبل أن يزيحه عرفات جانبًا. وبعد وفاة عرفات في نوفمبر 2004، اختارت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وفتح عباس سريعًا خلفًا له، ثم شرعن نفسه بفوزه في انتخابات رئاسية جرت في يناير 2005.

 

لكن بقاء عباس في السلطة، لا بناء الدولة، كان وما زال هدفه. بينما كان بناء الدولة هو هدف الرجل الذي شغل منصب وزير المالية بين عامي 2002 و2005، ورئيس الوزراء بين 2007 و2013، وهو سلام فياض. كانت أهدافه واضحة، بل يمكن القول إنها مستوحاة من التجربة الصهيونية ذاتها. ففي عام 2010 قال فياض: «إسرائيل كدولة لم تُنشأ عام 1948، بل إعلان الدولة كان في 1948. أما المؤسسات الرئيسية للدولة وخدماتها فكانت موجودة قبل ذلك بوقت طويل.» وبالمثل، كان يؤكد أن «فلسطين لن تنشأ في فراغ، بل على قوة مؤسسات الحكم»، وأن الناس «سيرون الدولة وقد تُرجمت من حيز المفهوم إلى حيز الواقع. وهذا أمر بالغ القوة.»

 

وقد كرر هذا مرارًا. ففي عام 2009 قال:

 

«لقد عبّر الإسرائيليون أيضًا عن قلقهم من أن برنامجنا ليس في الحقيقة لبناء الدولة بل مجرد خطة لإعلانها، وهذا بالتأكيد ليس الحال. لقد أعلنا دولتنا عام 1988 ضمن ظروف موضوعية خاصة، ولسنا بحاجة إلى إعلان آخر. لكن الصحيح تمامًا هو أنه إذا رأتنا الأسرة الدولية قد أنشأنا دولة فعلية على الأرض، حتى مع استمرار الاحتلال، فسيكون هناك ضغط هائل على الإسرائيليين لإنهاء الاحتلال.»

 

وفي عام 2024 قال:

 

«كانت المهمة دائمًا تتعلق ببناء الدولة وتجسيد واقعها على الأرض. ولهذا استثمرت كثيرًا في جعل ذلك يحدث. تصنعها—فقط تصنعها، تجعلها تحدث، تبنيها. تبني مؤسساتها وتجسّد واقعها. دعها تنمو بين الناس، بدل أن تفرض من أعلى. ثم تعمل سياسيًا، بطريقة ما، مع المجتمع الدولي لمنحها السيادة.»

 

وهذا بالضبط ما كانت خريطة طريق بوش تهدف إليه، لكنه فشل تمامًا. فلم يبنِ الفلسطينيون مؤسسات حكم، ولم يشيّدوا دولة فعلية، وكان الواقع على الأرض كارثيًا. لماذا إذن لم يثمر «الفيّاضية» أو بناء الدولة الحقيقي سوى القليل؟ جزء من اللوم يقع على إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية التي هلّلت لفياض لكنها قدّمت له القليل من المساعدة. فبالنسبة للغرب، كان هناك دائمًا ما هو «أهم»: عملية السلام ذاتها. المفاوضات، والزيارات، والإعلانات، والقمم—كانت هذه الأهداف المباشرة؛ بينما كان بناء الدولة أمرًا شاقًا وطويلًا ومملًا وغير مجزٍ. احتاج السياسيون الغربيون إلى ما هو لامع لملء الحاجة السياسية الآنية. وهذا بالضبط ما نشهده اليوم في طقوس الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية غير الموجودة. لقد تحولت «عملية السلام» من عملية بناء إلى بديل عنها—استبدلت المؤتمرات والبيانات بالعمل الجاد الذي كانوا يعرفون أنه لن يُنجز على الأرجح، ولن ينجح، ولن يرضي أحدًا خلال المدى الزمني القصير الذي تفرضه السياسة.

 

وبالتأكيد لم يكافئ الفلسطينيون أنفسهم فياض على جهوده. ففي عام 2005 استقال من منصبه كوزير للمالية ليخوض انتخابات البرلمان في 2006. وحصل حزبه على 2.4% فقط من الأصوات، أي مقعدين من أصل 132. في تلك الانتخابات هزمت حماس حركة فتح، إذ حصلت على 44% من الأصوات مقابل 41% لفتح.

 

لماذا فازت حماس؟ رأى الرئيس بوش أن الفلسطينيين كانوا يرفضون فساد فتح ويصوتون من أجل حكومة نظيفة. بينما قال آخرون إن السبب ديني: فتح حركة علمانية وحماس إسلامية، فصوّت الناس للإسلام. أما رأيي فكان مختلفًا: ربما كان الفلسطينيون يصوتون للحركة التي تقتل اليهود بدلًا من تلك التي تفاوضهم. وربما أظهر هذا التصويت، مرة أخرى، أن بناء الدولة خطوة بخطوة وفق رؤية فياض، ومفاوضات فتح من أجل إقامة الدولة، لم يلبيا ما يريده كثير من الفلسطينيين أكثر: الكفاح المسلح ضد إسرائيل.

 

واستمر فياض كرئيس للوزراء في الترويج لفكرة بناء الدولة، وفي 2009 أعلن خطة من 54 صفحة تمتد لعامين وتؤدي إلى إقامة الدولة عبر بناء مؤسسات أكثر وأقوى. لقي فياض تشجيعًا غربيًا، لكن خطته تخلّت عن أوسلو وشرطها بحل النزاع بالتفاوض، وكان من المفترض أن تنتهي في 2011 بإعلان أحادي للدولة على حدود 1967. لم تعجب الخطة سياسيي فتح لأنها همّشتهم وأضعفت سيطرتهم على المفاوضات مع إسرائيل. كما لاحظ قادة فتح وحماس أنها تخلّت عن «الكفاح المسلح» الذي كان دومًا محور حماس وأقرته فتح مجددًا في ذلك العام.

 

لم تنجح خطة فياض، وبالطبع لم يُتخلَّ عن الكفاح المسلح. لكنها، من زاوية أخرى، قد تُعتبر نقطة تحول حاسمة: فقد كان نموذج أوسلو يقوم على أن السلام سيتحقق عبر التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أما فياض فقد تخلّى عن مركزية الحصول على موافقة إسرائيلية.

 

لقد أراد فياض بناء مؤسسات الدولة، لكن فلسطينيين آخرين تساءلوا: لماذا نتكبد كل هذا العناء إذا كان يمكننا الحصول على دولة دون ذلك؟ ماذا لو قامت دولة فلسطينية لا بفضل الجهد الشاق لبناء المؤسسات أو التخلي عن العنف، بل كهبة من الحكومات الأجنبية؟ وماذا لو تبيّن أن «الكفاح المسلح» ضد إسرائيل لا يثير اشمئزاز تلك الحكومات الأجنبية، بل يولّد مزيدًا من المطالبات على إسرائيل، ومزيدًا من الدعم للقضية الفلسطينية؟

 

هذا بالضبط هو واقعنا اليوم. فالشروط التي طالب بها بوش قبل عشرين عامًا تبدو الآن شبه ساذجة. الجميع يدرك أن الفلسطينيين لن يلبّوا أي متطلبات تُفرض عليهم. لذلك يقبل قادة مثل ماكرون وعود عباس الجوفاء بأن «الإصلاح» قد حصل أو جارٍ أو سيحصل قريبًا. لا يهم: هو يكذب، وهم يعلمون تمامًا أنه يكذب، وقد قرروا أن هذه الأكاذيب لا تهم. أما النهج البديل فهو نهج ستارمر، الذي يقول إن على إسرائيل أن تحقق أهدافًا مستحيلة بحلول تاريخ معين، وإلا فسوف يعترف هو بالدولة الفلسطينية. وهكذا يمكنه أن يفعل الأمرين معًا: الاعتراف بدولة، وإلقاء اللوم على إسرائيل. وفي كل هذه الحالات، الهدف هو تلبية حاجة سياسية (أي مهاجمة إسرائيل) لا تقريب قيام الدولة الفلسطينية أو تحسين حياة الفلسطينيين.

 

أما الموقف الأميركي في عهد بايدن فكان نسخة معدلة من هذا، مع استخدام عبارة أصبحت شائعة الآن. ففي 7 فبراير 2024، أي بعد أربعة أشهر تمامًا من مجازر حماس، ألقى وزير الخارجية أنتوني بلينكن كلمة في إسرائيل دعا فيها إلى «مسار ملموس، محدد بزمن، ولا رجعة فيه» نحو الدولة الفلسطينية. بهذه الكلمات دمّر بلينكن شرط خريطة طريق بوش بوجود متطلبات مسبقة لإنشاء الدولة الفلسطينية. فـ«المحدد بزمن» و«غير القابل للرجوع» هما النقيض تمامًا لفكرة «القائم على الأداء» التي قامت عليها الخريطة.

 

والمسار على مدى العقود واضح. أولًا، قيل إن المفاوضات مع إسرائيل ضرورية على نحو مطلق. وقد عرضت إسرائيل السلام والأرض (بوضوح أكبر في عهد إيهود باراك عام 2000 وإيهود أولمرت عام 2008، كما سنرى لاحقًا) لكن ذلك كان سيتطلب تنازلات صعبة أيضًا من الجانب الفلسطيني، فرفض القادة الفلسطينيون. ثم جاءت فكرة بناء الدولة من الأسفل إلى الأعلى، وعندما تكتمل المؤسسات يُعلن عن الدولة من طرف واحد. لكن الفلسطينيين لم يبنوا هذه المؤسسات، بسبب مزيج من فساد وعجز السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وفتح؛ والحركات الإرهابية التي حظيت بدعم واسع في تكريس العنف ضد إسرائيل بدلًا من اتخاذ إجراءات إيجابية لخلق واقع جديد؛ وبسبب اهتمامهم العميق أكثر بتدمير إسرائيل من بناء دولة ستكون فقيرة، محدودة السيادة، وغير مُرضية سياسيًا ونفسيًا. وهكذا، فإن «المجتمع الدولي» اليوم يرمي المنشفة ببساطة ويعترف بالدولة الفلسطينية، رغم أنها غير موجودة.

 

لقد قادت الاتحاد السوفيتي الطريق حين اعترف بـ«فلسطين» عام 1988. ثم تبعته الأقمار الصناعية السوفيتية والمتعاطفون، وكذلك الدول العربية والإسلامية. أما الدول الغربية فقد صمدت بشرف، فارضة مطالب وشروطًا. نحن اليوم نشهد انهيار ذلك الصمود المبدئي. فلا إسرائيل ولا الدول العربية المعتدلة ولا الديمقراطيات الغربية استطاعت أن تفرض أو تُغري الفلسطينيين بتطوير قيادة معتدلة لائقة وبناء مؤسسات دولة حديثة.

لكن تحت ضغط سياسي يساري وطلبات متزايدة من الجاليات المسلمة، حتى ديمقراطيات «العالم الأنجلوساكسوني»—كندا وأستراليا وبريطانيا—التي كانت يومًا حصنًا ضد المطالب الراديكالية وكثيرًا ما صوّتت ضد قرارات الأمم المتحدة العبثية وغير المتوازنة، قد تخلّت الآن. وهم يعرفون تمامًا ما تتطلبه الدولة الفلسطينية لتكون ناجحة، لكنهم لم يعودوا يهتمون؛ فالضغوط السياسية أكبر من أن تُقاوَم، ويرغبون في معاقبة إسرائيل وحكومتها اليمينية على «خطيئة الدفاع عن نفسها». وأي فلسطيني لن يلاحظ أن كثيرًا من قادة العالم لا يشترطون حتى إطلاق سراح كل الرهائن قبل إطلاق تصريحاتهم الفارغة؟

 

لم يكن هناك ما هو أشد ضررًا بإمكانية بناء دولة فلسطينية لائقة، ديمقراطية وسلمية من هذا النوع من «الدعم». فالرسالة إلى الفلسطينيين واضحة: ما عليكم فعله للحصول على الاعتراف بدولتكم هو لا شيء. لا إصلاح، ولا بناء مؤسسات، ولا ديمقراطية، ولا هزيمة لجماعات الإرهاب، ولا حكومة كفؤة. كل ذلك سيحدث بطريقة سحرية في الدولة الفلسطينية بمجرد أن تقوم. أما استخدام العنف الوحشي واللاإنساني فسيجلب مكافآت جميلة، في حين أن ردود أفعال إسرائيل ستجلب لها العقاب—إذ من الواضح تمامًا أنه لولا هجمات 7 أكتوبر، ما كان ماكرون وستارمر وألبانيزي وكارني ليعترفوا اليوم بهذه الدولة الوهمية.

 

والنقطة الأخيرة تستحق التشديد. كما كتب ديفيد واينبرغ، متحدثًا لا عن غزة بل عن الضفة الغربية: «لا أحد يتوهم أن أي سلطة فلسطينية قادرة أو راغبة في مواجهة تراكم الجيوش الإرهابية الإسلامية المدعومة من إيران في هذه المناطق—والتي تهدد مباشرة القدس وإسرائيل الوسطى. وحده الجيش الإسرائيلي يستطيع وسيفعل ذلك؛ ومن ثم ستستمر العمليات العسكرية واسعة النطاق في جنين وطولكرم ونابلس لتدمير تلك التهديدات بشكل حاسم.» وكل إسرائيلي يعرف أن هذا صحيح. إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن يعني الإصرار على أن العمل العسكري الإسرائيلي في تلك المناطق غير مشروع، وهو طريقة ملتوية للقول إن الدفاع عن النفس الإسرائيلي غير مشروع.

 

وهذا الدفاع الإسرائيلي عن النفس سيظل ضروريًا، لا بل أكثر إذا ما أُنشئت دولة فلسطينية. كما كتب آغا ومالي: «ربما كان الإسرائيليون أكثر انفتاحًا على الإقناع لو قُدِّم لهم سبب للاعتقاد أن الانسحابات الإقليمية ستجلب الأمن. لكن تجربتهم تشير إلى عكس ذلك.» لأن إنشاء فلسطين ضعيفة وفقيرة ومحاصرة لن يمنح الفلسطينيين النصر التاريخي والعاطفي الذي يسعون إليه. وحده تدمير إسرائيل سيفعل، وستستمر الجهود لتقريب ذلك اليوم. سيُنظر إلى إقامة الدولة الفلسطينية على أنها نصر ضخم لكنه جزئي—نصر يمنح كثيرًا من الفلسطينيين يقينًا بأن النصر النهائي ما زال ممكنًا.

 

ومن المفيد تذكّر ما قال الفلسطينيون «لا» له—العروض الإسرائيلية بإقامة الدولة التي رفضوها. إليك رواية الراحل صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين في فترة أوسلو، ثم وزير شؤون المفاوضات، وأخيرًا أمين سر منظمة التحرير من 2015 حتى 2020:

 

في 23 يوليو 2000، في لقائه بالرئيس عرفات في كامب ديفيد، قال الرئيس كلينتون: «ستكون أول رئيس لدولة فلسطينية ضمن حدود 1967—مع بعض التعديلات وفق تبادل الأراضي—وستكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، لكننا نريدك، كرجل متدين، أن تعترف بأن هيكل سليمان يقع تحت الحرم الشريف.» فأجاب ياسر عرفات متحديًا: «لن أكون خائنًا. سيأتي من يحرره بعد عشر أو خمسين أو مئة سنة. لن تكون القدس إلا عاصمة للدولة الفلسطينية، ولا يوجد تحت الحرم الشريف أو فوقه إلا الله.» ولهذا حوصر عرفات، ولهذا قُتل ظلمًا. [مع ملاحظة أن عرفات في الواقع توفي لأسباب طبيعية].

 

وفي نوفمبر 2008، عرض أولمرت حدود 1967، وقال: «سوف نأخذ 6.5% من الضفة، ونعطي مقابلها 5.8% من أراضي 1948، و0.7% ستكون ممرًا آمنًا، والقدس الشرقية ستكون العاصمة، لكن هناك مشكلة في الحرم وما يسمونه الحوض المقدس.» فأجاب أبو مازن متحديًا: «لست في سوق أو بازار. جئت لأرسم حدود فلسطين—حدود 4 يونيو 1967—دون أن أنقص بوصة واحدة، ودون أن أنقص حجرًا واحدًا من القدس، أو من الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية.» ولهذا لم يوقّع المفاوضون الفلسطينيون.

 

إذا كانت تلك العروض الإسرائيلية غير كافية، فلن يكون أي عرض كافيًا أبدًا. وهذه العروض غير متصوَّرة اليوم بالنسبة للإسرائيليين، لأن المخاطر التي تفرضها غير مقبولة بالنسبة لهم يمينًا ويسارًا ووسطًا بعد 7 أكتوبر. لقد كان أولمرت مستعدًا لوضع كامل البلدة القديمة من القدس تحت إدارة دولية، وهو تنازل مذهل لم يكن مرجحًا أن يمر في حكومته أو الكنيست، ولن يتكرر. لكن حتى هذا لم يستدعِ ردًا من عباس، ولا رد على مقترح كيري-أوباما للسلام عام 2014.

 

وهكذا فإن «تقدّم» المجتمع الدولي انتقل من الإصرار على المفاوضات، إلى الإصرار على بناء الدولة، إلى الإصرار على لا شيء؛ يجب الاعتراف بالدولة الفلسطينية فورًا دون مفاوضات مع إسرائيل، ودون أن تكون قد حققت أيًّا من المتطلبات الطبيعية لقيام الدول.

 

القسم الثالث

 

هناك منطق معين في هذا التسلسل إذا لم يكن المرء يهتم حقًا بالإسرائيليين والفلسطينيين، وإذا كان يتحرك بدوافع سياسية داخلية. لكن هذا المنطق لن ينجح، لسببين. أولًا، في الوقت الراهن هناك طرف رئيسي ما زال يرفض بين الدول القوية: الولايات المتحدة، التي ما زالت تُصر على أن موجة الاعتراف بـ”فلسطين” هي بمثابة مكافأة للإرهاب. بل إن وزارة الخارجية فرضت في 31 يوليو عقوبات جديدة على مسؤولين في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، متهمةً إياهم بـ”عدم الالتزام بتعهداتهم وتقويض فرص السلام” و”مواصلة دعم الإرهاب بما في ذلك التحريض وتمجيد العنف (خصوصًا في المناهج الدراسية)، وتقديم مدفوعات ومزايا دعماً للإرهاب وللإرهابيين الفلسطينيين وأسرهم.”

 

ثانيًا، الإسرائيليون لن يقدموا على الانتحار. كما قال مايكل أورين: “منذ مجازر 7 أكتوبر 2023، يرى معظم الإسرائيليين أن الدولة الفلسطينية مكافأة خطيرة على الإرهاب. لا أحد يعرف شكل هذه الدولة، ولا من سيديرها، ولا إن كانت ستكون ديمقراطية وسلمية أم إسلامية وجهادية. لا أحد يستطيع أن يثبت أن الفلسطينيين قادرون على إدارة دولة قومية.” أما النصيحة التي تتكرر منذ سنوات، على لسان وزير الخارجية بلينكن ومئات الدبلوماسيين، بأن “الأمن الحقيقي للإسرائيليين لن يتحقق إلا بوجود دولة فلسطينية”، فهي تثير الضحك فقط في القدس.

 

قد يقترح الساخرون أو الميكيافيليون أن يقبل الإسرائيليون بصيغةٍ ما الآن لإقامة الدولة الفلسطينية لاحقًا (أو لاحقًا جدًا) حين تتحقق شروط معينة – لأن الجميع يعرف أن هذه الشروط لن تتحقق أبدًا. وهكذا فلن تُقام الدولة أبدًا، وتحصل إسرائيل على الفضل لمجرد قول الكلمات السحرية. لكن مشكلة هذه الصيغة أنه، كما رأينا، لم يعد هناك شروط أصلًا. الوعود الفارغة تكفي. حتى في ظل استمرار الحرب، وبقاء الأسرى في قبضة الخاطفين، وبقاء “السلطة الفلسطينية المُصلحة” مجرد أسطورة، تُصر الدول الواحدة تلو الأخرى على قيام الدولة الفلسطينية فورًا. والإسرائيليون يعلمون أن أي شروط يضعونها سيتم التخلي عنها في النهاية.

 

إنها لحظة غريبة إذن: فكلما توسع الإصرار على الاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية، ضاق احتمال تحقق ذلك – خصوصًا لأن أنصار هذا الطرح يزداد وضوحهم في أنهم غير مبالين (أو معادون) لأمن الإسرائيليين. ويقول آغا ومالي عن القادة الذين يطالبون الآن بدولة فلسطينية فورية:

 

[إنهم يعلمون أن هذا غير واقعي ولا يستطيعون وضع خطة عملية لتحقيقه. في أعماقهم، المؤمنون بحل الدولتين، وقد واجهوا كل الأسباب للتخلي عن إيمانهم، يعودون إلى حجة واحدة: لا يوجد بديل. ويُعتبر التقسيم أمرًا محتومًا، حتى وإن أصبح من الصعب تخيله، لأنهم عاجزون عن تخيل أي شيء آخر… والنتيجة الأرجح هي استمرار الوضع القائم… لقد استمر لأكثر من نصف قرن، رغم الاعتراضات المتكررة ورغم نعواته المعلنة، متجاوزًا بكثير الـ19 عامًا التي لم تكن فيها إسرائيل تسيطر على الضفة الغربية أو غزة.]

 

وهم على حق. فالكثير من مؤيدي حل الدولتين يعترفون بكل المشكلات لكنهم يقولون “لا يوجد بديل”، كما قال وزير الخارجية الفرنسي في اجتماع الأمم المتحدة الكبير في يوليو، وكما كان بلينكن يكرر كثيرًا.

 

لكن هناك بدائل. أولها وأوضحها، كما يعترف آغا ومالي، هو الوضع القائم منذ عام 1967. الجميع في الأوساط الدبلوماسية يصر على أنه “غير قابل للاستمرار”، لكن، كما قلت سابقًا، ما دام مستمرًا منذ 58 عامًا فهذا لا يجعله عابرًا أو هشًا. القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية ما زالت متمسكة بالبقاء في السلطة، وهو هدف صعب عندما يبلغ عباس التسعين في نوفمبر، والمستقبل من بعده مجهول. فهل سيرتدي خليفته “القبعات الثلاث” لعباس وعرفات: رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير، وزعيم فتح؟ وهل سيكون الصراع على الخلافة قصيرًا ومهذبًا، أم طويلًا ودمويًا؟ وبالنظر إلى وضع هذه التنظيمات الثلاثة، هل سيحدث فرق من يخلف، أم أنها باتت عاجزة أصلًا عن استعادة ولاء الناس واحترامهم؟ ما يجب أن يكون واضحًا هو أنه بينما ينخرط قادة السلطة والمنظمة وفتح في صراع وحشي على السلطة فيما بينهم، فلن تكون لديهم قدرة تُذكر – أو معدومة – على بناء مؤسسات فلسطينية جديدة أو التفاوض على سلام مع إسرائيل. ولو راهنت على شكل الضفة الغربية بعد عام أو خمسة أعوام من الآن، لقلت إن التغيير الجذري غير مرجح.

 

أما القضية الدبلوماسية الأساسية الجاري نقاشها الآن بشأن مستقبل الحكم في غزة، فهي دور السلطة الفلسطينية هناك، وهل ستكون قادرة على حكم القطاع كما فعلت قبل أن تطردها حماس في خمسة أيام دامية عام 2007. معظم المقترحات الدبلوماسية، مثل “إعلان نيويورك”، تصر على أن تعود السلطة لتحكم غزة مجددًا كجزء من دولة موحدة. تاريخيًا، كثيرًا ما كانت الضفة وغزة منفصلتين، وأحيانًا مرتبطتين. بعد فترات طويلة من الحكم العثماني ثم المصري، أصبحت غزة – مثل الضفة الغربية – جزءًا من الانتداب البريطاني على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى. وقد استولت مصر على غزة عام 1948 عندما غادر البريطانيون، لكنها لم تضمها رسميًا؛ فيما استولت الأردن على الضفة الغربية، فكانتا منذ 1948 وحتى 1967 تحت حكم دولتين مختلفتين. أما فترة الارتباط الأوثق فكانت في سنوات أوسلو، عندما سيطرت سلطة عرفات على غزة والضفة معًا. وبعد أن استولت حماس على غزة عام 2007، انقطعت الروابط إلى حد كبير مرة أخرى.

 

كل المدافعين عن الدولة الفلسطينية يؤمنون بأن على إسرائيل أن تعود تقريبًا بالكامل إلى “حدود 1967”، التي هي عمليًا خطوط الهدنة لعام 1949، ويرون أن الدولة الفلسطينية المتخيلة يجب أن تضم غزة والضفة معًا. ولا يبدو أن أحدًا منهم قلق من أن السلطة الفلسطينية عاجزة اليوم عن حكم غزة أو إعادة إعمارها، وأنها لم تلعب أي دور فيها منذ جيل كامل. فكرتهم أن العالم سيساعد غزة على التعافي تحت وصاية دولية وسلطوية فلسطينية، وفي مرحلة معينة ستنضم غزة إلى الضفة الغربية كمنطقة طبيعية تحت حكم من رام الله – أو حتى من القدس، إذا جرى تقسيمها باتفاق تفاوضي وجعل جزء منها عاصمة فلسطينية.

 

تركيزي هنا ليس على مستقبل غزة. فأنا أعتقد أنه عند انتهاء الحرب، ستُنشأ لجنة دولية لإعادة إعمار غزة، تضم دولًا عربية أساسية (الأردن، مصر، الممولين الخليجيين)، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. وستعمل هذه اللجنة على إعادة بناء المدارس (نأمل أن تكون على النمط الإماراتي الحديث بدلًا من النمط القطري أو الأسوأ من ذلك الأونروا، التي تُحوِّل التعليم في الأساس إلى عملية تلقين للإرهاب ومعاداة السامية)، والمستشفيات، وسائر المرافق المدنية. وستضفي مباركة السلطة الفلسطينية الشرعية على أي هياكل حكم أو إدارة تُفرض في غزة وكذلك على الدور الأجنبي المتعمق، بينما ستحاول السلطة جاهدًا أن توهم بأنها في قلب هذه العملية. قد يقوي ذلك موقعها الدولي، لكنه لن يُحسِّن كثيرًا من سمعتها أو من حجم تأييدها في الضفة الغربية أو غزة، لأن من المرجح أنها ستؤدي مهامها بالكفاءة والفساد المعتادين.

 

الجزء الأصعب هو الأمن في غزة: من سيوفره؟ السلطة الفلسطينية غير قادرة، إذ تفتقر إلى العدد الكافي من القوات المدرّبة. والأرجح أن يكون الأمر مزيجًا فوضويًا من شرطة فلسطينية تم التدقيق فيها، وشركات أمن خاصة، وقوات عربية/إسلامية قد توافق بعض الدول على إرسالها للقيام بمهام محدودة على الأقل، مثل حماية مخزن أغذية أو مبنى حكومي. وفي الأثناء، وكما هو الحال في الضفة الغربية، سيقوم جيش الاحتلال الإسرائيلي بما لن تفعله السلطة أو القوات العربية على الأرجح: مقاتلة حماس ومنع إعادة تشكلها.

 

لكن الحد الأقصى مما يمكن أن يؤمَل في غزة، إذا تم تدمير حماس وأُعيد بناء القطاع بأكمله ماديًا عبر تحالف دولي واسع، هو أن يصبح شبيهًا بالضفة الغربية. فستظل هناك بقايا عشرين عامًا من التلقين الحمساوي لجيلٍ كامل، وسيظل هناك آلاف الشباب الذين دربتهم حماس على القتال، وسيظل هناك جميع أولئك الغزيين الذين صوّتوا لحماس ويقولون في استطلاعات الرأي إنهم ما زالوا يؤيدونها. فقد أظهر استطلاع في مايو 2025 أن 64٪ من سكان غزة يعارضون نزع سلاح حماس، وأن أغلبية يعارضون نفي قادة حماس العسكريين؛ وإذا أُجريت انتخابات تشريعية بمشاركة جميع الأحزاب التي خاضت انتخابات 2006، فإن الناخبين في غزة سيعطون 49٪ من الأصوات لحماس مقابل 30٪ لفتح.

كما قال 46٪ من جميع الفلسطينيين للمستطلعين إنهم يؤيدون “العودة إلى المواجهات والانتفاضة المسلحة” (وهي نسبة أعلى مما كانت عليه في استطلاع سبتمبر 2023 المذكور سابقًا). وعند سؤالهم عن الهدف الفلسطيني الأكثر أهمية، أجاب 41٪ أنه الدولة الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية عاصمةً، لكن 33٪ قالوا إنه يجب أن يكون “حق العودة” إلى بلداتهم وقراهم عام 1948، وهو ما يعني بالطبع تدمير إسرائيل كدولة يهودية.

 

إن الذين يطالبون الآن بالاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية لا يبدون وكأنهم يذكرون شيئًا من هذا، أو يعترفون بالحالة الحقيقية للمجتمع الفلسطيني. فكل نصفٍ من هذا المجتمع معزول تقريبًا تمامًا عن النصف الآخر منذ جيل كامل؛ النصف في غزة يخضع منذ عام 2007 لسلطة طائفة موت، والنصف في الضفة الغربية يخضع لسياسيين فاسدين منذ زمن أطول، سياسيين يمقتهم الفلسطينيون. إن الاعتراف بدولة فلسطينية اليوم لا يحل هذه الأزمة في المجتمع الفلسطيني – وهي أزمة ليست في الحكم فحسب، بل في الأيديولوجيا والهدف الوطني – بل إنه لا يعترف بها حتى. وبدلًا من ذلك، يتكرر الجواب ذاته: “لا يوجد بديل”، والوضع القائم منذ 1967 “غير قابل للاستمرار”.

 

إن الفكرة القائلة بوجوب بناء المؤسسات الفلسطينية أولًا، إلى حد كبير كما اقترح فياض لكن وفق جدول زمني أكثر واقعية بكثير، تُرفض رفضًا قاطعًا. تحسين حياة الفلسطينيين بشكل عملي – وظائف أفضل، تعليم أفضل، مستقبل أفضل، حكومة أفضل – لا يرضي أحدًا في الأوساط الدبلوماسية، لأنه لا يُهدئ أيًا من الضغوط السياسية التي تتعرض لها الحكومات. فالمتظاهرون يحاصرون البرلمانات ويكتبون على جدران المباني الحكومية شعار “من النهر إلى البحر”، لا “دعونا نبني مؤسسات فعّالة”. ولذلك فإن البديل العملي، أي نسخة محسنة كثيرًا من الوضع القائم، يُعتبر سياسيًا “غير قابل للاستمرار”.

 

أما البديل المتمثل في إقامة دولة فلسطينية الآن فسيفشل، لأنه يُشكّل تهديدًا أكبر بكثير لإسرائيل مما يمكن أن يقبل به الإسرائيليون (أو أي دولة أخرى). وكما رأينا، فإن هذا “البديل” الذي يلقى إشادة واسعة، ليس حتى الهدف الحقيقي للقومية الفلسطينية، بل سيخلق منصة لانطلاق هجمات مستقبلية على إسرائيل من أراضٍ ستصبح ذات سيادة بموجب القانون الدولي.

 

القسم الرابع

 

الحل “الغير منطقي” لدولة واحدة تجمع بين الإسرائيليين والفلسطينيين كمجتمع ودولة، سيؤدي، مثل “حق العودة”، إلى تدمير إسرائيل كدولة يهودية. وليس من المعقول اليوم أن تحقق مثل هذه الدولة السلام الداخلي أو ترضي رغبات الإسرائيليين أو الفلسطينيين. كما يوضح آغا ومالي: “الحل النقي لدولة واحدة غير جذاب لكثير من الفلسطينيين… الفلسطينيون يستشهدون به أكثر كتهديد لتحفيز الإسرائيليين على قبول حل الدولتين من كونه طموحًا حقيقيًا.”

 

لكن هناك بديل موجود منذ زمن طويل، ويرفض بشدة باعتباره غير واقعي ومستحيل، رغم أنه أكثر واقعية بكثير من حلول الدولة الواحدة أو الدولتين. أولئك الذين يتابعون عن كثب، وكانوا يفعلون ذلك لعقود، يعلمون أن حل الدولتين لن يتحقق. ويعترف آغا ومالي، المفاوضان المخضران في مجال السلام، بذلك:

 

فكرة التقسيم موجودة منذ أكثر من 80 عامًا. وقد استمرت محاولات التوصل إلى حل الدولتين لربع قرن تحت ترتيبات وسياسات وقوى مختلفة تمامًا. من حيث طول المدة والإبداع وطبيعة الشخصيات المشاركة، سيكون من الصعب انتقاد السعي لحل الدولتين. ومع ذلك، بغض النظر عن الإعداد، والمحتوى، والشخصيات، والأسلوب، لم تتغير النتيجة… ويأتي وقت يتعين فيه حتى على الأكثر تفاؤلًا أن يتخلى عن إيمانه.

 

فما هي الفكرة التي يقترحونها بعد ذلك؟ الأردن. كما كتبوا: “نتيجة محتملة أخرى هي اتحاد كونفدرالي أردني-فلسطيني يضم المملكة الهاشمية والضفة الغربية… قد يرى الإسرائيليون وجود قوة أمنية أردنية في الضفة الغربية موثوقًا بها، أكثر من قوة فلسطينية، وربما أكثر من قوة غربية.”

 

اقترح الملك حسين مثل هذا الاتحاد في عام 1972: مملكة موحدة تتألف من مقاطعتين، مع حكم ذاتي كامل للضفة الغربية باستثناء سيطرة الأردن على الشؤون العسكرية والأمنية والخارجية. في عام 1977، أبلغ الرئيس كارتر مناحم بيغن بذلك؛ وفي أوقات مختلفة، أيد الرئيس السادات من مصر وهنري كيسنجر هذه الفكرة. وافق حسين وعرفات على مثل هذا الاتحاد في عام 1985، لكن الأردن تخلى عن الفكرة في عام 1988 ويرفضها اليوم، مطالبًا بالدولة الفلسطينية.

 

ولا تزال الفكرة لها بعض الأهمية. كتب شلومو بن-أمي، السياسي الإسرائيلي من حزب العمل (ولاحقًا ميريتز) ووزير الخارجية في حكومة إهود باراك، في عام 2022:

 

“نظرًا لفشل جميع المحاولات الأخرى لحل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، قد يكون الوقت قد حان لإعادة النظر في الخيار الأردني… تنازل الملك حسين عن مطالبة الأردن بالضفة الغربية لم يُصادق عليه أبدًا من قبل برلمان البلاد، ورآه كثيرون، بمن فيهم ولي العهد السابق حسن بن طلال، غير دستوري. في عام 2012، قال إنه بما أن حل الدولتين لم يعد ممكنًا، ينبغي على السلطة الفلسطينية السماح للأردن باستعادة سيطرته على الأراضي… للاتحاد الأردني-الفلسطيني منطق أكثر إقناعًا من الناحية الاقتصادية والدينية والتاريخية والذاكرة.”

 

لم يفضل الملك حسين، مثل إسرائيل ومعظم القادة العرب، أبدًا إقامة دولة فلسطينية مستقلة بالكامل. فقد كان يخشى أن تتطرف وتقع في يد “زعيم يشبه القذافي”، كما قال جيمي كارتر. بالنسبة لحسين، كانت الدولة الفلسطينية سترث بالضرورة الصفات الثورية للحركة الوطنية الفلسطينية. في عام 1985، توصل حسين إلى تفاهم مع رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات، يقضي بممارسة الفلسطينيين لـ”حقهم غير القابل للتصرف في تقرير المصير” ضمن سياق اتحاد كونفدرالي للدول العربية الأردن وفلسطين. دافع حسين عن ذلك باعتباره مسألة “مصير مشترك”، و”مسألة تاريخ وتجربة وثقافة واقتصاد وبنية اجتماعية مشتركة.” وكان يعتقد أن الحركة الوطنية الفلسطينية الفوضوية ستُنقذ بربط مصيرها بالأردن، “دولة ذات سيادة تتمتع بمكانة دولية موثوقة.”

 

من اللافت أن القلق الذي يعبر عنه مؤيدو دور الأردن هو بالضبط ما شاهدناه في أسوأ صورة له في 7 أكتوبر 2023: تطرف أي دولة فلسطينية لأنها سترث “الصفات الثورية للحركة الوطنية الفلسطينية” التي كانت “فوضوية”. يجب أن تكون الفكرة المتعلقة بالاتحاد واضحة: فهو سيقسم أخيرًا الانتداب الفلسطيني القديم إلى جزء يهودي وآخر عربي، ويضمن ــ من خلال الجيش الأردني والمخابرات ــ ألا تسيطر حماس أو غيرها من الجماعات الإرهابية على الجزء العربي أو تستخدمه كنقطة انطلاق للهجمات على إسرائيل.

 

يعترف آغا ومالي بأن مثل هذه المقترحات ستواجه “عقبات كبيرة” في الأردن. لكنهما يوضحان المزايا لكلا الطرفين:

 

“بالنسبة للأردن، يعني الاتحاد توسيع حجمه وثقله السياسي. بالنسبة للنخبة الفلسطينية، فإن عمان بالفعل تعمل كمركز سياسي واجتماعي بديل… سيكسب الفلسطينيون قوة اقتصادية واستراتيجية، ويقللون من ضعفهم واعتمادهم على إسرائيل، ويحصلون على مساحة سياسية قيمة، ويصبحون جزءًا من دولة أكثر تأثيرًا.”

 

ارتفع وانخفض دعم الفلسطينيين لفكرة الاتحاد، لكن أبرز الباحثين الفلسطينيين ذكر في عام 2018 أن استطلاعات سابقة أظهرت دعمًا يتجاوز 40 بالمائة. لماذا تُطرح فكرة الاتحاد هنا، ولماذا الآن؟ جزئيًا لإظهار أنها ليست فكرة غريبة، بل خيار له جذور تاريخية ومزايا حقيقية. وجزئيًا كتذكير بأنه من الخطأ والسطحي القول إنه “لا يوجد بديل” للدولة الفلسطينية الكاملة. وجزئيًا لأن الدولة الفلسطينية لن تتحقق، لذا سيكون من الضروري في مرحلة ما التفكير في بدائل. من أسوأ آثار موقف “لا يوجد بديل” هو أنه أوقف كل نقاش حول الخيارات الأخرى التي قد تكون موجودة.

 

يمكن القول، بالطبع، إن اتحادًا كهذا لن يرضي القومية الفلسطينية. لكن القومية الفلسطينية في شكلها الحالي لا يمكن أن تتحقق بالكامل دون أن تمتد فلسطين “من النهر إلى البحر” – أي باستبدال إسرائيل بدلاً من العيش “جنبًا إلى جنب في سلام وأمن”. إن شكلاً أكثر إيجابية من القومية الفلسطينية يمكن أن يتحقق فعلاً من خلال الحكم الذاتي الكامل في اتحاد مع الأردن، وهي دولة عربية مسلمة ونصفها فلسطيني بالفعل. أولئك الذين يرون أن هذا غير كافٍ – أن الهوية أو الإثنية الفلسطينية تتطلب دولة مستقلة – عليهم أن يخبروا لماذا لا ينطبق الأمر نفسه على كردستان، التبت، شينجيانغ، كيبيك، وصوماليلاند، من بين العديد من الحالات الأخرى. الإعلانات بأن الفلسطينيين لهم “حق” في دولة مستقلة تمامًا ليست مقنعة من الناحية التاريخية أو القانون الدولي، ولا هي أكثر إقناعًا من الإعلان مليون مرة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي “الصوت الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني” بينما هذا غير صحيح بشكل واضح.

 

ما الذي سيقنع الأردن بالموافقة على هذا الخيار؟ اليوم، لا شيء؛ فالضجيج من أجل الدولة الفلسطينية كبير جدًا. لكن بعد فترة، عندما تنتهي حرب غزة وتبدو الدولة الفلسطينية بعيدة المنال، وعندما تعترف دول عربية جادة مثل السعودية والإمارات التي تريد إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بأن دولة فلسطينية ستكون غير مستقرة ومتطرفة، وعندما تُعرض مليارات من المساعدات على الأردن لدورها في المساعدة على حل الصراع بالعودة إلى موقف الملك حسين السابق، وعندما يلجأ الفلسطينيون الذين يسعون لإنهاء الحكم الإسرائيلي في الضفة الغربية إلى الأردن، قد تتغير الأمور.

 

في مرحلة ما، يجب أن يُعرض على الفلسطينيين هذا الخيار الإضافي، عندما يتضح مجددًا أنه على الرغم من الضجيج في الأمم المتحدة، لن تكون هناك دولة فلسطينية. ربما تكون الطريقة للوصول إلى ذلك هي تلك التي اقترحها صلاح خلف، أحد مؤسسي فتح ورئيس المخابرات في منظمة التحرير الفلسطينية وثاني أعلى مسؤول في فتح بعد عرفات. يستشهد أغا ومالي باسمه الحركي، أبو إياد:

 

بعد قبول منظمة التحرير الفلسطينية لحل الدولتين في أواخر الثمانينيات، تحدث أبو إياد، وكان آنذاك أحد كبار مسؤوليها، عن الفلسطينيين وهم يتمتعون بخمس دقائق من الاستقلال قبل الدخول في محادثات مع الأردن حول شكل من أشكال الاتحاد. سمعت هذا القول يتكرر على مر السنين من قبل عدد قليل من الفلسطينيين المتأملين والمتعبين غالبًا الذين يبحثون عن طريق للأمام يفصلهم عن إسرائيل، ويضمن قدرًا كبيرًا من الحكم الذاتي والاستقلال الحقيقي، ويجلب لأبنائهم حياة أفضل، ومع ذلك يمنع المتطرفين والإرهابيين الفلسطينيين من تحويل “فلسطين” الخيالية السلمية إلى نسخة من غزة السابقة – قبل 7 أكتوبر – أو الحالية. إنهم يفهمون شيئًا أساسيًا لا يفهمه ماكرون وكارني وستارمر: الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والدعم الواسع للعنف في المجتمع الفلسطيني لن يُحل بترديد سحري للاعتراف، بل سيصبح أسوأ بسببه.

 

حتى لا تكون القومية الفلسطينية في جوهرها تهدف إلى تدمير إسرائيل، وحتى يتم فحص خيارات مثل الارتباط العضوي بالأردن، لن يُحل الأزمة الداخلية أو المواجهة العنيفة بين إسرائيل والفلسطينيين. الإسرائيليون لن ينتحروا، وهذا يعني أنهم لن يمكنوا من يريدون قتلهم وأطفالهم وتدمير دولتهم. هذه هي الحقيقة التي يجب مواجهتها، ويتم تجنبها يوميًا من قبل دبلوماسيين سطحيين يدعون حماية الفلسطينيين وسياسيين متعجرفين مدفوعين بحاجتهم لمزيد من الأصوات.

 

الدولة الفلسطينية التي تعيش في سلام وأمن جنبًا إلى جنب مع إسرائيل هي سراب: على الرغم من كل الادعاءات بأننا نقترب منها، فإنها دائمًا ما تتراجع. ربما يومًا ما ستنهار الجمهورية الإسلامية في إيران، وستتوقف حكومة جديدة هناك عن دعم كل جماعة إرهابية ترغب في تدمير إسرائيل. ربما يومًا ما سيعامل قادة الديمقراطيات الكبرى إسرائيل بعدالة، وسيطالبون وينفذون تغييرات جوهرية في المجتمع الفلسطيني التي تقضي على الآثار المدمرة لقرن من معاداة السامية الدموية والجهود لتدمير إسرائيل. ربما يومًا ما سيجد الفلسطينيون ويدعمون قائدًا وطنيًا، على عكس الحسيني أو عرفات، يرغب حقًا في بناء مجتمع لائق بدلاً من مهاجمة الجار. لكن حتى تحدث مثل هذه الأمور، يجب أن تظل الدولة الفلسطينية مستحيلة.

 

المجاز الأنسب لحياة الفلسطينيين اليوم هو مشهد مدينة غزة كما كان في 6 أكتوبر: خلف وتحت واجهات المنازل والمستشفيات والمدارس والمساجد كانت هناك شبكة واسعة من أنفاق الإرهاب ومخازن الأسلحة. وتحت تلك الشبكة المادية كانت، وما زالت، شبكة فكرية وعقائدية من المعتقدات – معتقدات تؤدي إلى دعم واسع لحماس حتى اليوم، وتدفع السلطة الفلسطينية إلى تسمية المدارس والساحات بأسماء إرهابيين قتلة الأطفال، ودفع رواتب ومكافآت للإرهابيين في السجون الإسرائيلية.

 

لقد بذلت إسرائيل جهدًا كبيرًا للقضاء على البنية التحتية المادية للإرهاب، لكن لا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية ما لم وإلا انتهت الشبكة الفكرية التي تقدر “النضال المسلح” ضد الدولة اليهودية فوق بناء حياة طبيعية للفلسطينيين. هذه مهمة للفلسطينيين، وليس الإسرائيليين، وهي مهمة لن يقوم بها الفلسطينيون بينما تؤكد لهم المنظمات الدولية وقادة الدول المهمة أن الدولة ستأتي إليهم قريبًا وبدون شروط.

 

استكشف:

    • حل الدولتين
    • عملية السلام
    • الدولة الفلسطينية
    • الأردن
    • الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني

 

عن المؤلف: إليوت أبرامز هو زميل أول للدراسات الشرق أوسطية في مجلس العلاقات الخارجية ورئيس مؤسسة تيكفا.

 

إليوت أبرامز (Elliott Abrams) هو دبلوماسي ومحلل سياسي أمريكي بارز، يُعرف بمواقفه المحافظة ودعمه القوي لإسرائيل. شغل مناصب عليا في إدارات رؤساء أمريكيين، بما في ذلك مستشار الأمن القومي ومسؤول في وزارة الخارجية خلال إدارات رونالد ريغان، جورج دبليو بوش، ودونالد ترامب. يُعتبر خبيرًا في السياسة الخارجية، خاصة في شؤون الشرق الأوسط، وله كتابات وآراء حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، غالبًا ما تنتقد حل الدولتين وتدعو إلى سياسات صلبة تجاه إيران وحماس. حاليًا، يكتب ويحلل لمؤسسات مثل مجلس العلاقات الخارجية وTikvah Fund.

 

رابط المقال https://ideas.tikvah.org/mosaic/essays/there-won-t-be-a-palestinian-state-in-the-west-bank-it-s-time-to-reconsider-the-j

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى