القسم السياسي

نار تحت الرماد: الشرق الأوسط على شفير الانهيار.. هل يبقى التوتر محصوراً أم تنفجر الحرب الشاملة من بيروت إلى طهران؟

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

في قلب الشرق الأوسط، يلتهب الخريف بنيران خفية تتسلل عبر الجبهات المتشابكة، من شواطئ بيروت المتوترة إلى أعماق طهران الاستراتيجية، مروراً بصحاري سوريا والعراق المليئة بالألغام، وحتى إلى شواطئ البحر الكاريبي البعيدة. هذا المنطقة التاريخية، المشبعة بتأريخ الصراعات العنيفة والتحالفات المتقلبة، تطرح اليوم سؤالاً مصيرياً:

 

 هل يظل التصعيد تحت سيطرة “التوتر المحسوب”، أم أن شرارة واحدة كفيلة بإشعال حريق يبتلع الجميع؟ 

 

في هذا المقال، نغوص في أعماق هذه الديناميكيات المعقدة، مستعرضين الجبهات الساخنة ومخاطرها، مع توسيع النظر في السياقات السياسية والعسكرية التي قد تحدد مصير المنطقة حتى مطلع العام 2026.

 

تبدأ الدراما في لبنان، حيث تشتعل الجبهة مع الكيان الصهيوني بوتيرة غير متزنة، وكأنها رقصة على حبل مشدود فوق هاوية. يعود الجدل حول ترسانة حزب الله إلى الساحة بقوة، مع إصرار الحزب على رفض أي اتفاق يقيد قدراته الدفاعية أو يحد من حركته. في المقابل، يعزز الكيان الصهيوني من ترسانته الاستخباراتية، بإطلاق أقمار صناعية متقدمة للرصد الدقيق، ويستمر في إرسال إشارات عدوانية من خلال غارات جوية محدودة النطاق.

هذه الضربات، التي غالباً ما تستهدف مواقع عسكرية، تأتي كردود محسوبة على أي تحركات من الجانب اللبناني، لكن الكيان الصهيوني يتردد في الذهاب إلى أبعد من ذلك، مثل تنفيذ عمليات اغتيال لقيادات بارزة، خوفاً من أن يؤدي أي خطأ إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين أو إثارة ردود عنيفة تخرج عن السيطرة. ومع ذلك، يبدو أن هذا التوازن الهش يعتمد على مبدأ “الردع المشترك”، حيث لا يرغب أي طرف في حرب شاملة قد تدمر الاقتصادات وتغير الخرائط السياسية. لكن، في سياق تأريخ المنطقة، نعلم أن مثل هذه الجبهات قد تحولت سابقاً من توتر محدود إلى مواجهات مدمرة، خاصة إذا تدخلت عوامل خارجية مثل الدعم الإقليمي أو الضغوط الدولية.

 

أما الجبهة الإيرانية مع الكيان الصهيوني وواشنطن، فهي لعبة شطرنج نووية مليئة بالمفاجآت والتهديدات الخفية. التبادلات النارية التي شهدها الصيف الماضي أكدت أن التوتر بين طهران ويافا المحتلة، مدعوماً بتواجد أمريكي قوي، قد وصل إلى مرحلة “حرب باردة” تتخللها صدامات ساخنة. تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تكشف عن ارتفاع مستويات التخصيب النووي في إيران، مما يثير مخاوف عميقة لدى الكيان الصهيوني، الذي يرى في ذلك تهديداً وجودياً. من جانبها، تحافظ الولايات المتحدة على حاملات طائراتها وقواتها في الخليج العربي وشرق البحر المتوسط، جاهزة لأي تصعيد.

ومع ذلك، تبدو حرب إقليمية واسعة أمراً بعيداً عن الاحتمال، نظراً للكلفة الباهظة التي ستدفعها جميع الأطراف – من خسائر اقتصادية هائلة إلى اضطرابات في أسواق الطاقة العالمية. بدلاً من ذلك، يستمر نمط “حرب الظلال”: هجمات إلكترونية متطورة، عمليات بحرية سرية، وتصعيدات مؤقتة يمكن احتواؤها بوساطة دولية. هذا النهج يعكس استراتيجية إيران في تعزيز نفوذها دون الدخول في مواجهة مباشرة، بينما يسعى الكيان الصهيوني إلى الحفاظ على تفوقه التكنولوجي، وتظل واشنطن حارساً للتوازن الإقليمي.

 

على الحدود بين العراق وسوريا، يستمر الاحتكاك اليومي كدليل على عدم استقرار المنطقة، حيث يعزز “الحشد الشعبي” تواجده لمواجهة بقايا الجماعات المتطرفة، فيما تظل خطوط الإمداد عرضة لضربات جوية أو هجمات بطائرات بدون طيار. هذه الساحة، الغنية بتأريخ النزاعات الحدودية، مرشحة لمزيد من الاشتباكات المتفرقة، مثل تلك التي حدثت مؤخراً ولا تزال مستمرة، لكنها لن تتحول إلى صراع استراتيجي كبير إلا إذا امتد التصعيد الإيراني-الصهيوني إلى مستويات غير مسبوقة. هنا، تلعب التحالفات الإقليمية دوراً حاسماً، حيث قد تؤدي أي تدخلات خارجية إلى توسيع الدائرة، مما يجعل المنطقة أكثر عرضة للانهيار الأمني.

 

في سياق موازٍ، يضيف التوتر بين واشنطن وفنزويلا طبقة إضافية من التعقيد، كأنه جبهة جانبية تستنزف الطاقات الأمريكية. مع تحركات عسكرية أمريكية قرب شواطئ فنزويلا، وتنفيذ عمليات بحرية محدودة ضد سفن متهمة بالتهريب، يبدو هذا الصراع بعيداً جغرافياً لكنه يؤثر مباشرة على قدرة واشنطن على التركيز الكامل في الشرق الأوسط. هذا الاستنزاف يعكس استراتيجية أمريكية أوسع لمواجهة التحديات المتعددة، لكنه قد يضعف الردود على التهديدات الإقليمية، مما يمنح الخصوم فرصاً إضافية للمناورة.

 

داخل الكيان الصهيوني، تختلف الحسابات السياسية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يواجه أزمة داخلية عميقة ناتجة عن ضغوط قضائية متزايدة، احتجاجات شعبية واسعة، وانقسامات في الائتلاف الحاكم. هذه الظروف تجعله يميل إلى خطوات عسكرية مدروسة تعزز صورته كحارس للأمن، مثل تعزيز الضربات المحدودة، لكنها في الوقت نفسه تجعله حذراً من أي مغامرة كبرى قد تهدد استقرار حكومته أو اقتصاد الكيان. في تأريخ المنطقة، غالباً ما استخدم قادة مثل نتنياهو التصعيد الخارجي لتعزيز الدعم الداخلي، لكن اليوم يبدو أن التوازن بين الردع والحذر هو المفتاح.

 

أما السيناريوهات المتوقعة حتى مطلع 2026، فهي تتراوح بين الاستمرارية والمفاجآت. 

 

السيناريو الأكثر احتمالاً هو استمرار الاشتباكات المحسوبة في لبنان، مع توتر نووي مستمر مع إيران ضمن إطار “حرب الظلال”، حيث يحافظ كل طرف على ردعه دون الذهاب إلى التصعيد الكامل. 

 

ثم يأتي سيناريو التصعيد المؤقت (باحتمال متوسط)، مثل اندلاع جولة من الضربات المتبادلة تستمر أياماً أو أسابيع، إثر حدث كبير كاغتيال قائد أو هجوم على منشأة استراتيجية في إيران، مما قد يؤدي إلى خسائر محدودة لكنها تثير مخاوف دولية.

 

 أما السيناريو الأقل احتمالاً، وهو التهدئة المشروطة، فيتضمن صفقة شاملة تشمل لبنان وإيران، برعاية أمريكية أوروبية وعربية، تؤدي إلى هدنة طويلة الأمد مع ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة، مثل تبادل المساعدات مقابل ضمانات نووية.

 

في النهاية، يقف الشرق الأوسط على حافة خط رفيع: 

 

اشتباكات مستمرة لكنها محصورة، إشارات عدوانية دون حرب كاملة، وردع متبادل يسعى كل جانب للحفاظ على توازنه دون السقوط في الفوضى. من بيروت إلى طهران، مروراً بحدود العراق والخليج الفارسي ، يبدو هذا الخريف مرحلة “التوتر المتحكم فيه”. لكن تأريخ المنطقة يذكرنا دائماً بأن شرارة واحدة – سواء كانت حادثاً عرضياً أو قراراً متهوراً – كفيلة بكسر التوازن وتحويل السيطرة إلى كارثة شاملة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى