لجمهورية الصهيونية

مجاهد الصريمي صنعاء:
لم تكن الولايات المتحدة، منذ تأسيسها على أنقاض السكان الأصليين لتلك القارة، إلا التجسيد الحي للصهيونية، والمعنى الذي يؤكد أن هذه الدولة كانت ولا تزال هي الأصل الذي يمد الكيان الصهيوني اللقيط بكل ممكنات القوة التي يستطيع بها الامتلاك لكل عوامل بقائه واستمراريته كشرّ مطلق. ولطالما كانت العقيدة الصهيونية محركاً لولبياً في التأريخ الأميركي، بل هي الأساس الميتافيزيقي لمعظم الممارسات العنصرية في التاريخ القديم والحديث.
نعم، فالعقيدة الصهيونية هي التي عادة ما أشعلت النيران في الحماسات والمشاعر والبواريد، وفي القرى والمدن، ونشرت ركام الموتى في أكثر من أربعين دولة اجتاحتها أو قصفتها الولايات المتحدة، وعززت القناعة بأن لأميركا قدراً أعلى من كل أمم الأرض، وأنه مهما حل بإسرائيل فوق أرض فلسطين، فإن إسرائيل الأميركية تبقى القلعة المحصنة لإعادة بناء قيمها ومبادئها وأخلاقها.
يقول الأميركيون: إن يهود الروح الذين يمثلهم الأنجلوسكسون هم الذين يحملون رسالة (إسرائيل) التي تخلى عنها اليوم يهود اللحم والدم، وهم الذين أعطاهم الله العهد والوعد، وهم الذين ورثوا كل ما أعطاه الله تاريخياً ليهود اللحم والدم ومعظمهم من ألدّ أعداء السامية.
ليس هذا فحسب، بل يضيفون قائلين: لقد اختار الله يهود اللحم والدم مؤقتاً، وبشروط أخلفوها، ولكنه اختار الأمة الأميركية (الأنجلوسكسون) مؤبداً، لأنها تستحق الاختيار، ولأنه وهبها كل ما يلزمها من قوة وثروة لأن تكون “شعب الله وفوق كل الشعوب”، إلى الأبد.
إن أدب المستعمرين الأوائل كله يؤكد هذه القدرية التأريخية التي نالت ذروة إبداعها في سيرة وموعظة جون ونثروب، أول حاكم لمستعمرة ماساتشوستس. أما السيرة فوضع لها مؤلفها كوتون ماذر عنوان: (نحميا الأميركي) تأسياً بنحميا الأسطوري الذي قاد الإسرائيليين في (عودتهم) من سبي بابل إلى أرضهم الموعودة، ونظّم الكثير من موجات الهجرة من بابل إلى يهوذا، ثم أشرف على انتشال أورشليم من أنقاضها وأعاد بناءها “مدينةً على جبل”. وكانت الأجيال اللاحقة قد صنّفت هذا الحاكم مع يعقوب وموسى وداود، غير أن اختيار نحميا، بطل إحياء إسرائيل، هو الذي طغى في النهاية.
والواقع أن كل سيرة نحميا الأميركي هي مثال على إصرار المستعمرين الإنجليز على التماهي بين تجربتهم في العالم الجديد وما يرويه العهد القديم عن تجربة العبرانيين في العالم القديم، أو بتعبير صموئيل فيشر في (شهادة الحقيقة): “لتكن إسرائيل المرآة التي نرى وجوهنا فيها”. وأما الموعظة فهي تلك التي ألقاها ونثروب في الحُجَّاج على متن السفينة الأسطورية أربيلا، وأكد فيها على العهد الجديد بين الإسرائيليين الجدد وبين يهوه، وعلى الرسالة التي يحملونها إلى مجاهل أرض كنعان الجديدة، قال: “إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما يتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأُبّهته، وعندما يتوجب علينا أن نجعل (نيو إنغلاند) مدينة على جبل”.
وهذا التعبير هو رمز لأورشليم ولصهيون أيضاً، ولا يزال يستخدم إلى الآن للدلالة على المعنى الصهيوني لأميركا.
واللافت للاهتمام هنا أن وضع الدستور قد شجّع على توثيق وتثبيت المعنى الإسرائيلي الصهيوني لأميركا، كما كتب رئيس جامعة هارفرد صموئيل لانغدون (Samuel Langdon) في ملحمته الشهيرة “جمهورية الإسرائيليين: نبراس للولايات المتحدة”. هذه (الملحمة) التي هي في الأصل خطبة ألقاها في المحكمة العليا، سوف لن يجد قارؤها لحظة شك في أنه يقرأ مقاطع من سفر الخروج أو التثنية. بل إن لانغدون فعلاً يفتتح كلامه عن ولادة الدستور بهذا المقطع من سفر التثنية، قائلاً: “لقد علمتكم فرائض وأحكاماً كما أمرني الرَّب إلهي لكي تعملوا بها في الأرض التي أنتم داخلون إليها لتتملكوها. فاحفظوا واعملوا، فتلك هي حكمتكم وفطنتكم في عيون الشعوب الذين سيسمعون عن هذه الفرائض ويقولون: ما أعظم هذا الشعب وما أحكمه وأفطنه!”.
الواقع، كما يلاحظ صاحب كتاب (أميركا والإبادات الجماعية)، إن كل هذه الملحمة الرائعة إنما هي كناية شرح وتعليق وقياسات تمثيلية بين شريعة موسى والدستور الأميركي، وبين الصهاينة والأمة الأميركية. فالدستور مناسبة للتأكيد على وجه الشبه بين ما نزل على موسى من (ألواح) وبين ما نزل على قلب واضعي الدستور. وهي مناسبة للتذكير بأن إسرائيل القديمة والجديدة أمة مختارة، باركها الله قديماً بشريعة ليس لها مثيل، وجعلها (فوق كل الشعوب) نبراساً للعالم، ثم أكرمها حديثاً بدستور ليس له مثيل وجعلها (فوق كل الشعوب) مثالاً يُحتذى عبر كل العصور.