ترامب.. الخطر الأكبر على أمريكا والعالم

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
منذ أن صعد دونالد ترامب إلى سدة الحكم، لم يَعُد يُنظر إليه كرئيس عادي ضمن دورة سياسية طبيعية، لأنه بات كظاهرة خطيرة تهدد بقاء الدولة الأمريكية نفسها. فهو لم يأتِ ببرنامج إصلاحي أو مشروع تنموي، وإنما جاء ليُحدث هزة مدمرة في مؤسسات الحكم، ويضع الولايات المتحدة على سكة الفوضى والانقسام. وما يفاقم خطورته أن تأثيره لم يتوقف عند حدود الداخل الأمريكي، بل امتد إلى زعزعة الاستقرار العالمي بأسره.
تآكل الديمقراطية من الداخل
ترامب جسّد عقلية استبدادية لا تعترف بمفهوم الفصل بين السلطات. فهو ينظر إلى الكونغرس باعتباره خصماً، لا شريكاً دستورياً، وإلى القضاء كعائق أمام نزواته. لم يتردد في الهجوم على القضاة واتهامهم بالتحيز كلما أصدروا حكماً لا يعجبه. أما الإعلام، فقد جعله “عدو الشعب”، في سابقة خطيرة تهدف إلى تحطيم أي مرجع للحقيقة خارج دائرة شخصه.
هذا النهج يفتح الباب أمام أخطر ما يمكن أن تواجهه أي دولة: انهيار الثقة بالمؤسسات. وعندما تنهار الثقة، ينهار معها العقد الاجتماعي الذي يربط الشعب بدولته.
انقسام المجتمع الأمريكي
لا يمكن إنكار أن أمريكا اليوم أكثر انقساماً مما كانت عليه منذ الحرب الأهلية. هذا الانقسام كان نتيجة مباشرة لخطاب ترامب الشعبوي والعنصري. لقد غذّى مشاعر الكراهية تجاه الأقليات، وأطلق العنان للتيارات المتطرفة والعنيفة التي وجدت فيه مظلة سياسية. أحداث اقتحام الكونغرس في 6 يناير 2021 لم تكن مجرد حادثة، بل كانت دليلاً دامغاً على أن ترامب يحرك الشارع ضد الدولة إذا تعارضت نتائج الانتخابات مع مصالحه.
هذا الانقسام يهدد السلم الأهلي الأمريكي و يضعف صورة واشنطن أمام العالم، إذ لم يعد بإمكانها التباهي بأنها “منارة الديمقراطية”.
سياسة خارجية مرتجلة وخطرة
ترامب لم يتعامل مع السياسة الخارجية كملف استراتيجي يحدد مصالح الدولة لعقود، وإنما كصفقة تجارية مؤقتة. فهو انسحب من اتفاقات دولية كبرى مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران، وقلّص دور الولايات المتحدة في المنظمات الدولية. هذه السياسات لم تؤدِّ فقط إلى عزلة واشنطن، بل أعطت منافسيها، مثل الصين وروسيا، فرصة لتعزيز نفوذهم العالمي.
إلى جانب ذلك، لم يتردد ترامب في ابتزاز حلفائه في الناتو وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، مطالباً إياهم بدفع المزيد مقابل “الحماية”، وكأن العلاقات الاستراتيجية مجرد صفقة أمنية تُشترى وتُباع. هذا السلوك قوّض ثقة الحلفاء التاريخيين بواشنطن وفتح الباب أمام نظام عالمي متعدد الأقطاب تتراجع فيه الهيمنة الأمريكية.
تهديد الاقتصاد الأمريكي
شعاره “أمريكا أولاً” تحول إلى سياسة انعزالية أضرت بالمصالح الأمريكية نفسها. فقد أشعل حروباً تجارية مع الصين وأوروبا، أدت إلى اضطراب سلاسل الإمداد العالمية وارتفاع الأسعار داخل أمريكا. وفي حين استفاد الأثرياء من تخفيضاته الضريبية، دفع المواطن الأمريكي العادي الثمن من خلال التضخم وتفاقم العجز.
إدارته للاقتصاد اتسمت بالارتجال وتجاهل الحقائق، فبدلاً من تقديم خطط اقتصادية مدروسة، كان يقرر وفق حسابات سياسية آنية ومصالح انتخابية. النتيجة: اقتصاد هش، دين عام متصاعد، وبنية تحتية مهملة.
تهديد الأمن العالمي
أخطر ما في ظاهرة ترامب هو انعكاسها على الأمن العالمي. فالرجل لم يُخفِ إعجابه بالزعماء المستبدين على حد وصفه هو مثل بوتين وكيم جونغ أون، بينما هاجم قادة ديمقراطيين في أوروبا وآسيا. بهذا، أرسل رسالة سلبية بأن واشنطن لم تعد حليفاً موثوقاً للقيم الديمقراطية، بل قد تنقلب على حلفائها في أي لحظة.
وفي الشرق الأوسط، سياساته المتخبطة عمّقت الأزمات: من نقل السفارة إلى القدس المحتلة وتبني سياسات صهيونية متطرفة، إلى إشعال توترات مع إيران، ما جعل المنطقة أكثر عرضة للحروب والانفجارات.
خطر متصاعد على المستقبل
المقلق أن ترامب لم يتوقف عند طموح ولايتين، بل لمح إلى رغبته بالترشح لولاية ثالثة، في تحدٍّ مباشر للدستور الأمريكية. متجره الرسمي يبيع قبعات كتب عليها “ترامب 2028”، وهو ما يكشف عن عقلية تسعى لتحويل الديمقراطية الأمريكية إلى حكم شخصي طويل الأمد. ويمنع الدستور الأمريكي دونالد ترامب من الترشح لولاية ثالثة كرئيس. وفقًا للتعديل الثاني والعشرين من الدستور الأمريكي، المصادق عليه عام 1951، لا يجوز لأي شخص أن يُنتخب رئيسًا للولايات المتحدة لأكثر من ولايتين، سواء كانت هاتين الولايتين متتاليتين أو غير متتاليتين.
إن استمراره على هذا النهج يعني أن الولايات المتحدة قد تواجه مستقبلاً غير مسبوق من الاضطراب الداخلي والانحدار الدولي. والأسوأ أن النموذج الترامبي قد يُلهم قادة آخرين حول العالم لاتباع الأسلوب ذاته: تفكيك المؤسسات، زرع الفوضى، وتكريس الحكم الفردي.
ترامب.. نرجسية مدمرة وخطر داهم على أمريكا والعالم
لم يعد خافياً على أحد أن دونالد ترامب يمثل ظاهرة سياسية غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي. فهو ليس مجرد رئيس مثير للجدل، بل حالة مرضية تترجم صفات شخصية مضطربة إلى سياسات كارثية. شخصية نرجسية، عنيدة، سطحية في المعرفة، عدوانية في السلوك، تستخدم الكذب كسلاح يومي، وترى الدولة العظمى مجرد مرآة تعكس صورة “الزعيم الأوحد”.
النرجسية كآلية حكم
النرجسية مرض سياسي عندما يحتل صاحبه منصباً عاماً. ترامب يرى نفسه “المخلّص الوحيد”، وقد كرر مراراً أن “لا أحد غيره قادر على إصلاح أمريكا”. هذه الرؤية الذاتية المبالغ فيها تجعله يرفض الاستماع إلى الخبراء، ويعتبر أي نصيحة نقداً شخصياً. لهذا أحاط نفسه بالمطبلين والمصفقين، وأقصى كل صاحب رأي مستقل، حتى لو كان من حزبه.
هذا النمط يقتل المؤسسات من الداخل، إذ تتحول الإدارة إلى مجرد دائرة شخصية، والوزراء والمسؤولون إلى منفذين لأوامر مزاجية، لا لصنّاع سياسة عقلانية.
الكذب كسلاح سياسي
وفق إحصاءات موثقة، أطلق ترامب آلاف الادعاءات الكاذبة والمضللة خلال سنوات حكمه. لم يكن الكذب عنده زلة لسان، بل استراتيجية دائمة: تشويه الحقائق، نفي الوقائع، واتهام الآخرين بنشر “الأخبار الكاذبة”. بهذه الطريقة، زعزع ثقة المواطن بالإعلام والمؤسسات، وفتح الباب أمام نظريات المؤامرة التي غذّت العنف والانقسام.
عندما يصبح الكذب سياسة رسمية، تفقد الدولة قدرتها على اتخاذ قرارات صائبة، لأن كل قرار يحتاج إلى بيانات دقيقة وتحليل موضوعي.
عدوانية وتهور
شخصية ترامب العدوانية انعكست على الداخل والخارج معاً. في الداخل، كان خطابه محرضاً على الكراهية، يستهدف الأقليات والمهاجرين، ويعطي شرعية لتيارات متطرفة عنيفة. وفي الخارج، أطلق تهديدات متكررة ضد دول كبرى، وقرر الانسحاب من اتفاقات استراتيجية دون حساب التبعات، ما جعل السياسة الأمريكية ساحة للتوتر الدائم.
هذه العدوانية لا تنم عن قوة، بل عن تهور قد يقود العالم إلى مواجهات غير محسوبة.
سطحية في المعرفة
لا يقرأ، لا يدرس، ولا يملك صبراً على الملفات المعقدة. كثير من المقربين منه أكدوا أنه يكتفي بموجزات قصيرة وملونة بالصور لأنه يملّ سريعاً من النصوص الطويلة. رئيس بهذا المستوى من السطحية يواجه ملفات مصيرية مثل النووي والتغير المناخي والتجارة العالمية بلا أدوات حقيقية للفهم. النتيجة: قرارات مرتجلة ومتناقضة تترك البلاد والعالم في حيرة.
استغلال الغرائز بدل بناء الرؤى
أسلوب ترامب يعتمد على دغدغة الغرائز البدائية للجمهور: الخوف، الغضب، الغيرة من الآخر. لم يقدم رؤية استراتيجية متماسكة، بل شعارات شعبوية مثل “أمريكا أولاً”، “أوقفوا المهاجرين”، و”أعيدوا الوظائف”. هذه الشعارات قد تثير الحماسة مؤقتاً، لكنها لا تبني سياسات، بل تزرع العداء والانقسام.
انعكاسات دولية خطيرة
العالم كله دفع ثمن شخصية ترامب. فبسبب نرجسيته، انسحب من اتفاق باريس للمناخ وكأنه نزاع شخصي مع سلفه باراك أوباما، لا قضية تخص مستقبل الكوكب. بسبب عدوانيته، صعّد التوتر مع إيران وكوريا الشمالية في لحظات خطيرة، ثم عاد ليصافح كيم جونغ أون أمام الكاميرات وكأن السياسة الخارجية مجرد عرض تلفزيوني. وبسبب جهله، استهزأ بالتحذيرات الصحية والعلمية خلال جائحة كورونا، ما ساهم في سقوط مئات الآلاف من الضحايا في بلاده.
تهديد للنظام الدولي ولحلفاء أمريكا
حلفاء واشنطن لم يعودوا يثقون بوعودها. في الناتو، طالبهم ترامب بدفع الأموال وكأن الأمن الجماعي خدمة تجارية. في آسيا، جعل كوريا الجنوبية واليابان تتساءلان عن قيمة التحالف الأمريكي. في الشرق الأوسط، عمّق الانقسامات بانحياز مطلق للكيان الصهيوني، ما زاد التوترات وأشعل المزيد من الكراهية ضد أمريكا.
بهذا، ساهم في إضعاف النظام الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية، وفتح الباب أمام صعود قوى منافسة كالصين وروسيا.
مستقبل غامض
الأخطر أن ترامب لا يخفي طموحه بالبقاء في الحكم أطول من المسموح دستورياً. شعاره “ترامب 2028” يعكس عقلية الزعيم الأبدي. وهذا يعني أن وجوده يشكل تهديداً مباشراً لفكرة تداول السلطة، وهي الركيزة التي قامت عليها التجربة الأمريكية.
أخيراً، لا يمكن النظر إلى دونالد ترامب باعتباره ظاهرة انتخابية أميركية عابرة أو زعيماً مثيراً للجدل، وإنما بوصفه خطراً استراتيجياً يجمع بين سمات شخصية مضطربة ونهج سياسي يقوم على النرجسية والعدوانية وتجاهل الحقائق. هذا المزيج يضع الديمقراطية الأمريكية أمام اختبار غير مسبوق، إذ يقوّض المؤسسات من الداخل ويزرع الانقسام في المجتمع ويهدر الموارد الاقتصادية. وعلى الصعيد الدولي، يضعف التحالفات التقليدية ويزعزع ركائز النظام العالمي ويفسح المجال أمام صعود قوى استبدادية منافسة. إن عودته إلى البيت الأبيض لن تكون مجرد تداول طبيعي للسلطة، فهي نقطة انعطاف قد تسرّع مسار انحدار “الإمبراطورية الأمريكية” وتدفع النظام الدولي نحو مرحلة جديدة من الفوضى وعدم اليقين