القسم السياسي

أمريكا: من قناع “الدفاع” إلى وجه “الحرب” الدموي

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

منذ أن بزغت الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعرف العالم استقراراً حقيقياً. فحيثما وُجدت المصالح الأمريكية، سالت الدماء وتفجرت الحروب، حتى غدا القرن العشرون وما تلاه مرادفاً لآلة القتل الأمريكية. لم تكتف واشنطن بنقل أساطيلها إلى كل المحيطات، بل صنعت من الحروب وسيلة للاقتصاد، ومن العنف سياسة للدبلوماسية، ومن الدماء وقوداً للهيمنة. إنها الدولة الوحيدة التي ألقت قنابل نووية على مدينتين مأهولتين، هيروشيما وناغازاكي، لتقتل أكثر من مئتي ألف إنسان في لحظات، وتترك أجيالاً كاملة تعاني من السرطانات والتشوهات. ومنذ ذلك اليوم صار الدم جزءاً من تعريف “الهوية الأمريكية”، وصارت الحرب هي اللغة الأكثر بلاغة في خطابها للعالم.

 

تاريخ ملطخ بالدماء: سجل الحروب الأمريكية

 

تأريخ الحروب الأمريكية يكشف بوضوح أن هذه الدولة لم تدخل حرباً منفردة إلا وخرجت مهزومة أو مثخنة بالخسائر. في كوريا، خاضت أمريكا حرباً استمرت ثلاث سنوات (1950-1953) قُتل فيها أكثر من 36 ألف جندي أمريكي، وانتهت بتقسيم شبه الجزيرة لا بنصر مؤزر. في فيتنام، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 150 مليار دولار آنذاك (ما يعادل تريليونات اليوم) وفقدت نحو 58 ألف جندي، لتنسحب في 1975 تحت ضغط المقاومة الشعبية، تاركة وراءها سمعة مشوهة وصور جنودها وهم يفرون من سايغون.

في العراق 2003، ورغم استخدام أحدث الأسلحة، فإن الاحتلال واجه مقاومة مسلحة أجبرت واشنطن على إنفاق أكثر من تريليوني دولار، وخسرت أكثر من 4500 جندي، إضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين بإعاقات دائمة. في أفغانستان، أطول حرب في تأريخها، أنفقت أمريكا أكثر من 2.3 تريليون دولار خلال عشرين عاماً، لتسقط كابول في غضون أيام بيد طالبان، وتهرب واشنطن في مشهد أذلّها أمام العالم. حتى تدخلاتها في ليبيا وسوريا لم تجلب لها نصراً، بل فتحت أبواب فوضى خلّاقة أكلت حلفاءها وأضعفت نفوذها. كل هذه الحروب أثبتت أن أمريكا لا تجيد سوى إشعال النار، لكنها تعجز عن إطفائها، ولا تتقن سوى التدمير لكنها تفشل في البناء، وأنها الأكثر دموية وخطورة على البشر في هذا العصر.

 

من الدفاع إلى الهجوم: سقوط قناع الديمقراطية

 

وسط هذا التأريخ الملطخ بالدماء، جاء قرار إدارة ترامب بتغيير اسم “وزارة الدفاع” إلى “وزارة الحرب” كإعلان رسمي عن سقوط الأقنعة. فطالما ادعت واشنطن أنها تدافع عن الحرية والديمقراطية، لكن الخطوة الجديدة نسفت هذا الادعاء، لتقول للعالم: نحن دولة حرب ولسنا دولة دفاع. الوزير الأمريكي “بيت هيغسيث” لم يوارِ شيئاً حين أعلن: “ستخوض وزارة الحرب معارك حاسمة، لا صراعات لا نهاية لها. ستقاتل من أجل الفوز، لا من أجل الهزيمة. سنعتمد أسلوب الهجوم، لا الدفاع فقط. سنستخدم أقصى قوة فتك، لا أسلوباً قانونياً فاترًا. سنستخدم أسلوب العنف، لا أسلوباً يعتمد على الصوابية السياسية. سنُنشئ محاربين، لا مجرد مدافعين”. هذا النص وحده يكفي ليكون وثيقة دامغة تكشف جوهر أمريكا: العنف هو هويتها، والهجوم هو عقيدتها، والحرب هي قدرها. فالتغيير لم يكن في الاسم فقط، بل في إعلان العقيدة التي حكمت ممارساتها لعقود، لكنها الآن صارت تُقال علناً بلا مواربة.

 

هذا التحول ليس معزولاً عن مصالح الكيان الصهيوني، بل يتقاطع معه بعمق. فالكيان، الذي نشأ على الاغتصاب والاستيطان والقتل، يدرك أن وجوده مرتبط بالآلة العسكرية الأمريكية، وأن أي تحول أمريكي نحو نهج هجومي صريح يمثل فرصة ذهبية له. لهذا يندفع قادته، وعلى رأسهم نتنياهو، لاعتبار أن الزمن الراهن هو لحظة التأريخ لتحقيق الحلم التوراتي بدولة دينية تمتد من النيل إلى الفرات. إنهم يرون في الدعم الأمريكي فرصة تأريخية للتمادي في جرائمهم ضد الفلسطينيين ولتوسيع مشروعهم الاستعماري في المنطقة، غير مدركين أن هذا الرهان قصير الأمد.

فالكيان يضع مصيره في سلة قوة تتراجع عالمياً، ويتمادى في فتح جبهات مع شعوب المنطقة في وقت يتوسع فيه محور المقاومة ويزداد صلابة، من لبنان وغزة إلى اليمن والعراق وسوريا. ما يعتبرونه اليوم مظلة أمريكية للحماية قد يتحول غداً إلى عبء وجودي عليهم، لأن أمريكا التي تخسر حروبها لن تستطيع أن تنقذ ذراعها الاستعماري إذا اشتعلت كل الجبهات في وقت واحد.

 

العالم الجديد: صعود المقاومة وانهيار الهيمنة

 

المشهد لا يقتصر على الشرق الأوسط، بل يتسع إلى أوكرانيا وأوروبا الشرقية، حيث يتضح الصدام بين العقيدة الأمريكية الجديدة وبين قوى كبرى كروسيا. فالحرب في أوكرانيا، التي التهمت مئات المليارات من خزائن الغرب وأغرقت أوروبا في أزمة طاقة، قد تنتهي بهزيمة الغرب وتفكك الناتو، أو بهزيمة روسيا وتفكك الاتحاد الروسي. وفي كل الأحوال، فإن واشنطن تحاول عبر خطاب الحرب أن تحشد حلفاءها وتُخيف خصومها، لكنها في الحقيقة تعمّق مأزقها، إذ لم يعد العالم يقبل أن تُدار شؤونه بقرارات أمريكية من جانب واحد. أوروبا نفسها بدأت تدفع ثمن التبعية العمياء، من خلال تراجع صناعتها وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، والشعوب هناك تدرك أكثر فأكثر أن حروب أمريكا لا تجلب لها سوى الخراب.

 

في هذا السياق جاء عرض الصين في قمة شنغهاي ليشكل بديلاً عالمياً حقيقياً. فالمبادرة الصينية لا تقوم على الحرب، بل على التعاون الاقتصادي والتكامل الأمني، على بناء طرق التجارة بدل تدميرها، وعلى الشراكات المتعددة بدل الهيمنة الأحادية. قمة شنغهاي تجاوزت كونها اجتماعاً إقليمياً، إذ صارت منصة تعلن ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. روسيا والصين ومعهما دول كبرى مثل الهند وباكستان وإيران يطرحون اليوم مشروعاً بديلاً يهدد قلب النظام الغربي. ولذلك جاء إعلان واشنطن عن “وزارة الحرب” محاولة لتأكيد الهيمنة بالقوة، وكأنها تقول للعالم: إذا أردتم بديلاً عنّا فاستعدوا لمواجهتنا عسكرياً. لكن هذه السياسة الانتحارية قد تكون بداية النهاية للتفرد الأمريكي.

 

إيران تجد نفسها في قلب هذا المشهد، إذ تمتلك اليوم فرصة تأريخية لإعادة صياغة عقيدتها الدفاعية وتحالفاتها الاستراتيجية. بعد سنوات من الحصار والعقوبات، صار واضحاً أن واشنطن لم تعد قادرة على فرض عزلتها. وعلى طهران أن تستثمر هذا التحول لتعميق علاقاتها الدفاعية مع روسيا والصين، ليس فقط عبر شراء الأسلحة، بل من خلال مشاريع صناعية مشتركة تضمن لها الاكتفاء الذاتي وتفتح أمامها أبواب التكنولوجيا الحديثة في الطائرات المسيرة، الدفاع الجوي، والصواريخ الدقيقة.

كما تستطيع أن تقود صياغة معاهدة أمن جماعي إقليمية تضم محور المقاومة ودولاً أخرى ترفض الارتهان لواشنطن، لتشكل شبكة ردع تتجاوز القدرات التقليدية. وفي الوقت ذاته، يمكنها أن تدمج قوتها الميدانية مع أدوات الحرب السيبرانية والإعلامية والاقتصادية، بحيث تتحول من دولة محاصرة إلى لاعب لا يمكن تجاوزه في رسم ملامح النظام الجديد.

 

أما روسيا فعليها أن تدرك أن مصيرها مرتبط بقدرتها على الصمود في أوكرانيا وتعزيز حضورها في آسيا الوسطى، لأن أي تراجع هناك سيضعف مشروع شنغهاي. والصين مطالبة بأن تُسرّع في تحويل مبادرة الحزام والطريق إلى مظلة أمنية وعسكرية، بحيث تحمي مصالحها التجارية بقوة الردع، لا بمجرد الاتفاقيات. كوريا الشمالية بدورها تمتلك ورقة الردع النووي، وعليها أن توظفها بحكمة لدعم التوازن ضد أمريكا، مع تنسيق أوثق مع الصين وروسيا. الهند وباكستان، رغم تناقضاتهما التأريخية، يدركان أن صراع الهيمنة الأمريكي لا يستثني أحداً، وأن أمنهما القومي مرهون بالدخول في معادلة تعاون آسيوي بدل الارتهان للغرب. إن وحدة هذه القوى ليست ترفاً بل ضرورة، لأن المواجهة المقبلة لن تكون عسكرية فقط، بل اقتصادية وتكنولوجية وحضارية.

 

العالم يقف الآن على أعتاب تأريخ جديد. واشنطن أعلنت نفسها دولة حرب، والكيان الصهيوني يراهن على هذا النهج لتحقيق مشروعه التوراتي، لكن في المقابل ينهض محور مقاومة يزداد صلابة، وقوى دولية تصوغ نظاماً بديلاً يقوم على التعددية والتعاون. لم يعد مقبولاً أن تفرض أمريكا حروبها بلا حساب، ولم يعد ممكناً أن يستمر العالم تحت مظلة الهيمنة الغربية. لقد اختارت واشنطن أن تُسمّي وزارتها وزارة الحرب، لكنها لم تدرك أن هذا الإعلان قد يكون بداية النهاية لهيمنتها. النار التي تشعلها اليوم قد تمتد لتلتهمها غداً، والعالم المتعدد الأقطاب قادم مهما حاولت أن توقفه. وما يُكتب الآن ليس فصلاً عابراً، بل هو تأريخ جديد، عنوانه أن عصر الهيمنة الأمريكية ينطفئ، وعصر التوازنات الكبرى يبدأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى