إيران وفنزويلا: الطاقة كسلاح في مواجهة الهيمنة

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
يمثل النفط والغاز الطبيعي اليوم أحد أعظم أدوات القوة في النظام العالمي، ويمثل الاحتياطي النفطي والغازي عاملاً حاسماً في صراعات النفوذ بين الدول الكبرى. في هذا السياق، تحتل إيران وفنزويلا موقعاً استراتيجياً لا يمكن تجاوزه، فمعاً تمتلكان أكثر من ثلث الاحتياطي النفطي العالمي، بما يعادل نحو 34% من الاحتياطي الدولي المعروف، وهو ما يجعلهما محط اهتمام القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، التي ترى في هذه الثروات وسيلة للتحكم بالاقتصاد العالمي وفرض الهيمنة السياسية.
الولايات المتحدة، رغم كونها أكبر مستهلك للطاقة عالمياً، تمتلك أقل من 2% من احتياطي النفط العالمي، بينما الصين، أكبر مستورد للطاقة، تعتمد على تدفق النفط والغاز من مصادر خارجية لضمان استقرار اقتصادها. أما إيران، فهي تملك نحو 12% من الاحتياطي النفطي العالمي، وجاءت في المرتبة الثانية عالمياً بعد روسيا من حيث احتياطي الغاز، وهو ما يمنحها قوة اقتصادية واستراتيجية غير مسبوقة تجعلها لاعباً أساسياً في موازين الطاقة العالمية. أما فنزويلا، فتمتلك نحو 18% من الاحتياطي النفطي العالمي، لكنها تعاني من ضعف داخلي في القدرة العسكرية والدبلوماسية، مما يجعلها أكثر عرضة للتدخل الخارجي المباشر، خصوصاً من الولايات المتحدة.
القصّة ليست شيوعية أو دينية كما يحاول الغرب تسويقها، إذ هناك دول شيوعية وأنظمة دينية أخرى لا يسعى الغرب لتغييرها، بل يدعمها، حفاظاً على مصالحه. ما يميز إيران وفنزويلا هو الثروة الهائلة في موارد الطاقة، ما يجعل أي نظام مستقل فيهما تهديداً مباشراً للسيطرة الأمريكية على الأسواق العالمية، وهذا ما يبرر الحصار والتهديد بالعنف المباشر والضغط السياسي المستمر.
إيران، منذ الثورة الإسلامية، فهمت هذه المعادلة بذكاء استراتيجي. فقد أنشأت شبكة علاقات سياسية ودينية واسعة في الشرق الأوسط، وأسست محوراً متكاملاً داعماً لها، بما يخلق ردعاً متعدد الأبعاد أمام أي عدوان محتمل. على الصعيد العسكري، طورت إيران برنامجاً صاروخياً ضخماً يعد من أقوى البرامج في العالم، قادر على تهديد أي هدف مهما كان بعيداً، ما منحها قدرة على الردع الاستراتيجي المباشر وغير المباشر، وخلق توازن يضع أي تدخل غربي محتمل في دائرة التكلفة العالية جداً. إلى جانب ذلك، طورت إيران صناعة عسكرية محلية، وقدرات دفاع جوي متقدمة، وبرامج طائرات مسيرة، ما يجعلها قادرة على مواجهة أي تهديد بالقوة أو إجباره على تعديل سلوكه.
في المقابل، فإن فنزويلا أهملت تطوير نفسها داخلياً وعسكرياً، فاكتفت بالدفاع الشعبي المحلي، ولم تطور قوة دبلوماسية أو عسكرية خارج حدودها. جيشها ضعيف نسبياً مقارنة بالتهديدات التي تواجهها، ولم تبنِ شبكة تحالفات قوية تعزز موقعها الاستراتيجي. هذا الضعف يجعلها هدفاً مباشراً للاستغلال الأمريكي، خاصة مع إدارة ترامب، التي تسعى لاستغلال هذه الهشاشة لتغيير النظام بالقوة وتحويل النفط الفنزويلي إلى الأسواق الأمريكية، ومنع أي وصول له إلى منافسين عالميين مثل الصين وروسيا.
لكن هذا الوضع يوفر فرصة استراتيجية لإيران وفنزويلا معاً. فالموارد الهائلة للطاقة تمثل أداة قوة يمكن استخدامها لتأمين مصالحهما الاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي، عبر ربطها بالمصالح الحيوية للدول الكبرى، وبناء شبكة تحالفات متعددة الأطراف تعتمد على التبادل الاستراتيجي للطاقة، وتوفر لهما نفوذاً سياسياً يوازي قوتهما العسكرية والدبلوماسية. بمعنى آخر، يمكن لإيران وفنزويلا استخدام النفط والغاز لضمان حماية اقتصادهما الداخلي، دعم حلفائهما، والمساهمة في توازن عالمي جديد لا يمكن لأي قوة واحدة فرضه بالقوة.
السبب في هذا التوقيت مرتبط بالأزمة الاقتصادية العالمية والتحولات الاستراتيجية الكبرى. روسيا زودت الصين بالغاز والطاقة بأسعار منخفضة، ما منح الأخيرة قوة اقتصادية وسياسية هائلة على المستوى الدولي، وهو ما يهدد الولايات المتحدة التي تحاول الآن استعادة النفوذ والسيطرة على منابع الطاقة من خلال استهداف فنزويلا. إيران، بسبب قوتها العسكرية واستقلالية قرارها السياسي، لا يمكن السيطرة عليها بالقوة المباشرة، بينما فنزويلا الضعيفة تصبح محوراً للسياسات الاستراتيجية إذا ما تم دعمها ضمن إطار تحالفات محور المقاومة.
هذا المشهد يظهر الفرق الكبير بين إيران وفنزويلا. إيران استثمرت مواردها لتكون محرك قوة متكامل يجمع بين القوة العسكرية، التحالفات الإقليمية، والدبلوماسية الذكية. فنزويلا، رغم احتياطيها النفطي الضخم، بقيت دولة ضعيفة داخلياً، لكن بالتعاون مع إيران ومحور المقاومة، يمكنها أن تصبح جزءاً من شبكة ردع دولية تحمي استقلال قرارها ومواردها، وتخلق توازناً مع النفوذ الأمريكي، بحيث تصبح أي محاولة للتدخل المباشر مكلفة للغاية.
من منظور دولي، السيطرة على النفط هدف اقتصادي، و قبل كل شيء أداة استراتيجية للتحكم بالسياسات العالمية. أي محاولة لتغيير النظام في فنزويلا بالقوة لن تكون عملية عسكرية فقط، بل ستؤدي إلى تصعيد سياسي عالمي، وتفتح الباب أمام مواجهة أوسع بين الولايات المتحدة ومحور المقاومة والدول الصاعدة مثل الصين وروسيا والهند. إيران، بامتلاكها ثاني أكبر احتياطي غاز في العالم بعد روسيا، وبشبكة تحالفاتها المتينة، قادرة على تحويل هذه الموارد إلى أداة استراتيجية لتعزيز نفوذها وحماية حلفائها، بما يضمن استمرارية استقلال القرار السياسي ويحد من قدرة الغرب على فرض الهيمنة.
إن القوة الحقيقية في هذا السياق ليست في الهجوم الأمريكي المباشر، بل في بناء محور متكامل يجمع القوة الاقتصادية، العسكرية، والدبلوماسية، كما فعلت إيران عبر العقود الماضية. بالاستثمار الذكي للنفط والغاز، وتحالفات محور المقاومة، يصبح من الصعب على أي قوة غربية فرض إرادتها بالقوة، وتتحول الموارد الاستراتيجية إلى رافعة للدفاع عن السيادة الوطنية، وتعزيز التعاون الدولي المستدام، وضمان الاستقرار الإقليمي.
باختصار، إيران وفنزويلا يمثلان خط الدفاع عن استقلال الطاقة في العالم، وحماية هذه الموارد الاستراتيجية من السيطرة المباشرة يشكل جزءاً من معركة أكبر للهيمنة والردع على مستوى العالم، حيث تصبح القوة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية مجتمعة وسيلة استراتيجية لا يمكن تجاوزها بسهولة، وتحويلها إلى أداة استقرار ونفوذ يمثل نموذجاً مستداماً للرد على الهيمنة الغربية دون الحاجة لاستخدام القوة المباشرة.