سوريا والتغير الديموغرافي: ما هو المصير الذي يواجه الأقليات؟

حوراء المصري:
سوريا، بلد متنوع يضم الكثير من الأديان منذ قرون طويلة، حيث تعايشت كل منها مع بعضها البعض بكل هدوء وسلام، إلا أن الأمر تغير ولا سيما بعد اندلاع حرب 2011، والتي تُعرف بالثورة السورية.
هُجرت الكثير من الطوائف ولا سيما العلويون والدروز الذين تعرضوا للاضطهاد على يد عناصر ماسمي “الثورة” أو بالأحرى الإرهابيين، فلم تكتفِ هذه الحرب بتدمير المدن والبنية التحتية بل زلزلت التوازن السكاني ودَفعت الملايين من السوريين للهجرة أو للنزوح الداخلي هرباً من الوضع الأمني المتردي في مناطقهم.
إلا أن اليوم، وبعد سقوط النظام السوري بقيادة الأسد، وسيطرة الجماعات الارهابية المسلحة بقيادة الجولاني، نقف أمام سؤالٍ جوهري:
ما هو مصير الأقليات وعلى رأسها العلويون والدروز؟ هل تتجه الخريطة السورية إلى التغيرات الديموغرافية؟
“تأريخ سوريا… زاخرٌ بالأقليات”
لم تكن الطوائف في سوريا يوماً مجرد معتقدٍ ديني، فقد شكّلت ركيزةً أساسية من الهوية الوطنية السورية. فالعلويون استقروا في الساحل السوري وجبال اللاذقية وطرطوس وظلوا بمعزلٍ عن الحياة الاجتماعية والمدن الكبرى كدمشق وحلب، حتى مجيء حافظ الأسد الذي اعتمد على بعضهم في مفاصل أمنية لكنه لم يخرجهم من جلدتهم، و لم يغير موقعهم من الهامش إلى قلب السلطة فالعلويون لم يكونوا مسيطرين عليها و لم يحتكروها، كما يُشاع لربط وجودهم بنظام الأسد ، وبالتالي الانتقام منهم.
أما الدروز الذين يقطنون جبل العرب فقد اتسم تأريخهم بالكفاح الذاتي عبر العصور، وذلك بسبب شعورهم بالاضطهاد والقتل والتكفير، مما جعل دينهم يحيط به الخصوصية والغموض. لعبوا دوراً كبيراً في طرد الاستعمار الفرنسي، فضلاً عن الإرهاب الذي اكتسح سوريا عام 2011. كانت الطائفة الدرزية تشكل علاقة وطيدة مع نظام الأسد، فعمل الأسد على ضبط إيقاع الأقليات لتفادي النزاع الداخلي، ولم تكن الطائفة المسلمة السُّنة بالتحديد تشعر بالتهميش.
هذا التأريخ المختلف جعل كل من الأقليات يتعامل مع نظام الحكم بما إيجابية للحفاظ على مصالحهم، إلا أن هذا الإرث تحول لنقمة، ولا سيما مع اندلاع الحرب ودعم الأقليات للنظام.
“حرب 2011 وتأثيرها على وجود الأقليات”
لم تكن حرب 2011 صراعاً بين السلطة والمعارضة، فقد كانت حرباً تحمل في جوهرها عملية تغيير شامل للخريطة الديمغرافية لسوريا، فملايين من السوريين وجدوا أنفسهم أمام نزوح داخلي ولجوء خارجي، مما أدى إلى فراغ بعض المناطق من سكانها الأصليين وسيطرة المسلحين عليها.
كان النظام السوري على دراية مسبقة بما سيحدث، لذلك طبق هذه العملية على المناطق المعارضة، فهجّرهم إلى الشمال السوري، بينما نقل الموالين والداعمين له إلى دمشق وضواحيها. هذه العمليات لم تكن عشوائية، بل خطة دقيقة تهدف لخلق شريط ديمغرافي يضمن ولاء الساحل والوسط للنظام ويربط العاصمة بمناطق النفوذ، أو بالأحرى المناطق الموالية كالسويداء واللاذقية.
في المقابل، عملت المعارضة المسلحة المدعومة من دول عربية معينة وأمريكا وحتى الكيان الصهيوني على الضغط على الأقليات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ففوضى السلاح لعبت دوراً كبيراً في تهجير الكثير من السوريين، مما دفع الدروز والعلويين للتمركز في مناطقهم وحمل السلاح ونصب المتاريس للحفاظ على أبناء طائفتهم من الانتهاك والتكفير الذي مارسه الإرهابيون عليهم.
إلا أن هذه العملية تغيرت بدخول قوى إقليمية ودولية على خط الحرب، فبدعم من إيران في الوسط وروسيا على الساحل، تم تعزيز قدرات الدولة السورية وتمكين الجيش من الحفاظ على المدن والمناطق الحيوية، مما ساهم في صمود البلاد واستقرارها أمام التحديات، في حين سيطرت تركيا على بعض مناطق الشمال، وهو ما شكل تحديات إضافية لم تخل من تعقيد الوضع الأمني.
“سقوط الأسد”
ذكرنا سابقاً أن العلويين يشكلون إحدى مكونات المجتمع السوري المتنوعة، ولا يرتبط وجودهم السياسي والاجتماعي بشكل حصري بنظام الأسد. إلا أن الطائفيين والتكفيريين حاولوا ربط مصير العلويين بالنظام لتبرير ارتكاب المجازر بحقهم. ومع سقوط النظام، واجهت جميع المكونات تحديات كبيرة بسبب الانقسام والفوضى الأمنية، مما دفع بعض العلويين إلى البحث عن الحماية في مناطقهم التقليدية على الساحل أو الهجرة، خوفاً من العنف والفوضى الناجمة عن الصراع الدائر في البلاد
أما الدروز فحافظوا نسبياً على موقع الحياد من النظام، فقد تجنبوا الانخراط المباشر في الحرب، إلا أن سقوط النظام جعلهم أمام خيار صعب: إما الاندماج مع الدولة الجديدة بما تحمله من تحديات سياسية واجتماعية ودينية، أو مواجهة ضغوط إقليمية كالكيان الصهيوني الذي يسعى لضمهم إلى الجولان أو حتى فرض سيطرته على السويداء واعتبارها أرضاً تابعة له. وفي حال تصاعدت القوى قد يواجه الدروز تهجيراً قسرياً أو حتى حصاراً يضعف تماسكهم.
إن سقوط نظام الأسد جعل من سوريا تمر بما مر به العراق بعد سقوط النظام البعثي بقيادة الطاغية صدام حسين، مما يُبين أن أي انهيار للسلطة المركزية يفتح المجال أمام الانقسامات والتدخلات الإقليمية والدولية، ولا سيما مع هشاشة المجتمع السوري بعد حربٍ طويلة، فإن احتمال تكرار هذا المشهد يبقى قوياً.
“البعد الجيوسياسي لعملية التغيير”
مصير العلويين والدروز في سوريا ما بعد نظام الأسد لا يتوقف فقط على الداخل السوري، بل يتأثر كذلك بالحسابات الإقليمية والدولية: كإيران وتركيا وروسيا والكيان الصهيوني.
• إيران: ترى أن استقرار سوريا وتعايش مكوناتها المختلفة أمر أساسي للحفاظ على محور المقاومة ومواجهة التمدد الصهيوني في المنطقة. لذا، فهي تدعم الحفاظ على وحدة الأراضي السورية واستقرار المجتمع، بما يضمن قدرة سوريا على مقاومة أي تهديد خارجي.
• تركيا: تسيطر على مناطق واسعة في شمال سوريا، وهدفها الأساسي هو الحد من النفوذ الكردي في المنطقة. ورغم أن مستقبل العلويين والدروز ليس في صدارة اهتماماتها، إلا أن ظهور تجمعات طائفية قد تُستغل كورقة ضغط في الصراع مع دمشق وإيران. كما أن تركيا تواجه تناقضات مستمرة مع الكيان الصهيوني، سواء على صعيد تقسيم سوريا أو السياسات الإقليمية، مما يجعل تحركاتها في سوريا جزءاً من سياستها المتشابكة تجاه جميع الأطراف في المنطقة.
• روسيا: تهتم روسيا بشكل أساسي بمصالحها الاستراتيجية في الساحل السوري، بما في ذلك حماية قواعدها العسكرية والأسطول في البحر الأبيض المتوسط. لذا تتعامل مع الجولاني، وفق حساباتها الاستراتيجية دون التركيز على مصير العلويين أو أي مكون سوري آخر.
• الكيان الصهيوني: ينظر إلى سوريا كهدف استراتيجي يجب استغلاله، ويواصل الاعتداءات العسكرية بشكل متكرر حتى بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، مستهدفا مواقع الجيش السوري والبنى التحتية العسكرية والدفاعية والعلمية في مختلف المناطق. كما يعتبر الدروز ورقة قوة محتملة، لارتباط عدد كبير منهم في الجولان بدروز السويداء، مما يمنحه نفوذاً غير مباشر في المنطقة. بقاء الدروز واستقرارهم يُنظر إليه من قبل الكيان كعامل يحمي مصالحه ويتيح له الضغط على الفاعلين المحليين والإقليميين في سوريا.
هذه التدخلات تجعل من عملية التغيير الديمغرافي في سوريا عملية سياسية إقليمية ودولية بامتياز. إلا أن هذا التغير لا يؤثر على السياسة السورية فقط، بل يستهدف صميم النسيج الاجتماعي السوري، كونه يفكك البلاد إلى دويلات وطوائف غير متفاهمة.
“آثار اجتماعية وسياسية تواجه المجتمع السوري”
إن عملية التغيير الديمغرافي عميقة تمس جوهر المجتمع السوري وتقضي على الهوية الوطنية. يمكن تقسيم هذه التداعيات إلى ثلاثة أمور:
• تفكيك النسيج الوطني والاجتماعي: التهجير الواسع، وخاصة إذا ما طال الأقليات، يعزز الانقسام الطائفي ويحوّل المجتمع السوري إلى تجمعات مغلقة منعزلة عن الداخل السوري.
• إضعاف الهوية الوطنية: إن غابت الأقليات عن الساحة السورية قد تتحول سوريا إلى كيان واحد بعيد عن التعددية، فضلاً عن احتمالية نشوء كانتونات طائفية تزيد من الفوضى.
• تأثير على مستقبل الدولة: أي مصالحة يمكن أن تطرأ على الطاولة السورية قد تواجه عقدة طائفية مرتبطة بالدم والتهجير، مما يصعب تغيّر وجهة نظر ذوي الضحايا بشأن الدولة، وهذا يهدد مسارها ويخلق مشاكل معقدة.
لذلك يجب الفهم بأن التغير الديمغرافي لا يفقد سوريا جزءاً من سكانها فقط، فهو يهدد كيان سوريا وأمنها واستقرارها، كذلك يضعف هويتها التأريخية.
في نهاية المطاف، نفهم أن سقوط نظام الأسد ليس تغيراً في نظام الحكم، لأنه كان خطة مدروسة من قبل قوى إقليمية ودولية كأمريكا لتفكيك الداخل السوري وجعله أكثر هشاشة، لا يقوى على الوقوف أمام الهيمنة الغربية، ولا سيما الكيان الذي يقف متربصاً بسوريا منذ نظام الأسد حتى يومنا هذا. إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه اليوم:
هل يمكن للشعب السوري التكاتف وعدم السقوط في براثن التفكك الاجتماعي، وإعادة صياغة كيان سوريا بما يخدم مصالح الجميع، بما فيهم الأقليات؟