ما الذي جعل العراق البداية الرئيسية لجولة علي لاريجاني الدبلوماسية كأمين عام جديد لمجلس الأمن القومي الأعلى؟

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
لاريجاني: الاتفاق الأمني مع العراق يمثل محطة حاسمة/ أحمل معي رسائل خاصة إلى لبنان
يبرز توجه علي لاريجاني نحو العراق كأولوية أولى في رحلاته الرسمية دليلاً واضحاً على عمق الروابط التأريخية والروحية والحضارية والإيمانية، إلى جانب غيرها من العناصر الجوهرية، التي تحول دون تجاهل ضرورة تعميق الصلات بين الدولتين، مدعومة برغبة الشعبين في تعزيز الشراكة استناداً إلى المتطلبات الإقليمية والدولية. إذ يُعد العراق، بفضل موقعه الحيوي وتأريخه المشترك مع إيران، مدخلاً أساسياً لدعم التوازن في المنطقة، لا سيما مع تصاعد التحديات الأمنية التي تشهدها، مثل المخاطر الناجمة عن التدخلات الأجنبية ومساندة التنظيمات الإرهابية من جانب دول غربية. كما يعكس هذا الاختيار التزاماً بالصلات الدينية المتجذرة، كالتحضير لإحياء الأربعينية، التي تستدعي تعاوناً أمنياً وتنظيمياً مشتركاً للحفاظ على أمان ملايين الحجاج الإيرانيين والدوليين.
تفاصيل الزيارة واللقاءات الرسمية
في إطار أولى جولاته الإقليمية كأمين لمجلس الأمن القومي الأعلى في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التقى علي لاريجاني بقادة عراقيين رفيعي المستوى في بغداد، من بينهم الرئيس ورئيس الوزراء ومستشار الأمن الوطني، حيث تم التوقيع على مذكرة تفاهم أمنية حدودية بين إيران والعراق أمام رئيس الوزراء العراقي وبحضور مستشاره الأمني. أكد قاسم الأعرجي أثناء اللقاء أن “حكومة العراق ملتزمة بجهود جادة لإحباط أي انتهاك أمني يستهدف الاعتداء على أي جارة”. من جانبه، امتدح لاريجاني “الحكومة العراقية وسياستها الخارجية المعتدلة، والتي أدت إلى تعزيز الأمان والثبات في العراق والمنطقة ككل”.
الاتفاق الأمني وآليات التفعيل
تناول الجانبان كذلك آليات تفعيل الاتفاق الأمني السابق، مع التركيز على تعزيز التعاون الحدودي لصد التحديات المشتركة، كالفصائل الانفصالية والإرهابية التي جرى إبعادها سابقاً عن حدود إيران وفق اتفاقات سابقة. تأتي هذه الخطوة ضمن مساعي العراق لتعزيز دوره الإقليمي المتوازن، على الرغم من الاتهامات بسماحه باستخدام أجوائه في هجمات سابقة شنها الكيان الصهيوني على إيران، مما دفع بغداد إلى رفع شكوى أمام مجلس الأمن الدولي. وفي هذا السياق، أعرب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن التزام بلاده بتوسيع الروابط مع إيران في شتى المجالات، رافضاً العدوان الذي نفذه الكيان الصهيوني ضد إيران، ومؤيداً الحوار بين طهران وواشنطن لتهدئة التصعيد الإقليمي.
يسلط التوجه الإيراني نحو بغداد الضوء على الدور الاستراتيجي للعراق ضمن خطط إيران الإقليمية، خاصة بعد تولي لاريجاني مهامه خلفاً لعلي أكبر أحمديان، إذ يُنظر إليه كشخصية إيرانية مؤثرة في المنطقة عقب الشهيد قاسم سليماني، مدعوماً بخبرة غنية في الملفات الأمنية والسياسية.
الأمن المشترك في قلب النقاشات بين الدولتين
تزامن وصول لاريجاني إلى العراق مع فترة إحياء الأربعينية للإمام الحسين (عليه السلام)، حيث ينضم ملايين الإيرانيين إلى هذا المناسبة، ما يبرهن على متانة الروابط بين البلدين، ويفرض تنسيقاً رفيع المستوى لتأمين خدمات الزوار. كان هناك تنظيم مسبق على صعيد وزارة الداخلية والجهات الأمنية والشرطية والنقلية، غير أن زيارة لاريجاني تمنحها أفقاً جديداً يعزز من قيمة الصلات الثقافية والدينية بين الشعبين. وتتعدى هذه الجهود النطاق الثنائي لتشمل شراكة واسعة في إدارة الطقوس لجميع الزوار العالميين، كما في الاجتماع الأخير لوزراء داخلية إيران والعراق وباكستان الذي عقد في طهران. وبهذا الإطار، أصبح الأمن المشترك محوراً أساسياً، إذ استعرض لاريجاني مع القادة العراقيين الواقع الأمني الإقليمي، بما يشمل جرائم التجويع والإبادة بحق الفلسطينيين في غزة، مما يعبر عن الاهتمام المتبادل بملفات المنطقة.
وتتصدر قضية الأمان المشترك قائمة الاهتمامات في العلاقات الإيرانية العراقية. إذ يعمق وجود الوحدات الأمريكية في العراق، بالتوازي مع أنشطة بعض التنظيمات الإرهابية في أجزاء منه، من الحاجة إلى إجراءات أمنية متخصصة. يهدف الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، عبر التدخلات العسكرية ودعم الإرهابيين، إلى تقويض الاستقرار في إيران والعراق والمنطقة برمتها. تكشف الخبرات والوقائع التاريخية عن عدم توقف واشنطن عن مساندة وتجهيز الإرهابيين لإعاقة الروابط الأخوية بين طهران وبغداد.
وفي المقابل، يسعى الغرب لتقليص القدرات الدفاعية لدول المنطقة، من ضمنها إيران والعراق، كما يتجلى في عدوان الكيان الصهيوني والولايات المتحدة على إيران، واستهداف نظام الدفاع الجوي العراقي، ومساعيهم لحل الحشد الشعبي ونزع سلاحه، و هو الذي نشأ بفتوى المرجعية، كدلالات على هذه السياسات. تحت هذه الظروف، يُعد الدفع نحو تطبيق الاتفاق الأمني بين الدولتين أحد أبرز جوانب زيارة لاريجاني، وسيسهم دون شك في رفع مستوى الأمان لكلا الطرفين والمنطقة. تم توقيع الاتفاق الأمني المشترك بين إيران والعراق نهاية عام 2023 بواسطة الأدميرال علي شمخاني، أمين المجلس السابق، وقاسم الأعرجي، مستشار الأمن القومي ، وسيشهد توسعاً مع هذه الزيارة.
4 بناءً عليه، أبعدت العراق الجماعات الانفصالية والإرهابية عن حدود إيران، فيما يشكل نزع أسلحتها كلياً وإيقاف أعمالها خطوة فاعلة لتعزيز الانسجام ضد الإرهاب. كما يُعتبر تنفيذ الحكومة العراقية لقرار البرلمان (الذي وضع على الرف) بإجلاء القوات الأمريكية بعد استشهاد قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس أمراً حيوياً في الوضع الراهن. وخلال هذه الزيارة الحديثة، شدد لاريجاني على ارتباط أمن إيران بأمن جيرانها، معتبراً الاتفاق جزءاً من استراتيجية إيران لبناء روابط متينة مع الدول المجاورة، مع التركيز على التنسيق الحدودي لمواجهة الصعوبات المشتركة.
المنطقة وأهمية الانسجام
من الجوانب البارزة الأخرى أن إيران والعراق، كقوتين إقليميتين كبيرتين، يسعيان لأداء دور مؤثر في إرساء السلام والثبات الإقليمي، وقد أطلقا مبادرات مشتركة ثنائية أو ضمن منظمة التعاون الإسلامي والمنابر العالمية. حالياً، وبينما يستمر الكيان الصهيوني، بدعم أمريكي، في تصعيد الإبادة الجماعية بغزة، تحاول الولايات المتحدة نزع أسلحة التشكيلات الشعبية والمقاومة في دول المنطقة لحفظ أمن الـكيان الصهيوني.
وسط الاضطراب والأزمة في سوريا، مع اتساع خطط تقسيمها يوماً بعد يوم، وفرض العقوبات والتعريفات التجارية الأمريكية على دول مستقلة عديدة، يتحول الانسجام الإقليمي بين طهران وبغداد إلى ضرورة مطلقة. تؤكد طهران دوماً أن أمن المنطقة جزء من أمنها، ومع اهتمامها بسيادة دول المنطقة ومطالبتها بالأمن الجماعي، فإنها تنبه إلى رؤية الولايات المتحدة التي ترى في إثارة الفوضى الأمنية طريقاً للتغلغل وتحقيق أغراضها، كما تحذر مؤخراً بقلق من مخططات نزع أسلحة حزب الله وحشد الشعبي، ومن التأثير السلبي والمزعزع الذي تمارسه الولايات المتحدة في القوقاز.
تعتمد طهران، استناداً إلى تجاربها، على أن الطريق إلى الثبات والأمان الدائم في المنطقة يمر بالتلاحم تحت لواء مساندة فلسطين، مستفيدة من كل الإمكانات، بما فيها أدوات المقاومة. ومن هذا المنطلق، ينبغي النظر إلى زيارة لاريجاني للعراق، التي تمتد إلى لبنان، كعنصر في سياسة إيران لتعزيز الانسجام الإقليمي، مع التركيز على نمو الروابط الاقتصادية والسياسية والأمنية المحلية، ما قد يمهد لتغييرات جوهرية في الصلات الثنائية والتوازنات الإقليمية.
وفي هذا الإطار، أبرز لاريجاني أن الاتفاق الأمني مع العراق يشكل “نقطة بالغة الأهمية”، معتبراً إياها خطوة أساسية لتعزيز الشراكة الأمنية والحدودية، تعبر عن الثقة المشتركة بين طهران وبغداد في مواجهة المخاطر الخارجية، مثل محاولات إثارة الفتن من القوى الغربية والكيان الصهيوني. أما الرسائل التي يحملها إلى لبنان، فقد أوضح لاريجاني قبل إقلاعه من طهران أنها تتعلق بالتشاور حول الملفات الإقليمية، مع التركيز على دعم التلاحم الوطني في لبنان، سيادته، وتوسيع التبادل التجاري بين البلدين، مشدداً على الروابط التاريخية العميقة مع الحكومة اللبنانية، خاصة وسط الضغوط الأمريكية لنزع أسلحة حزب الله وضمان الثبات رغم استمرار الانتهاكات من الكيان الصهيوني لاتفاق وقف النار في نوفمبر 2024. تأتي هذه الرسائل لتعزيز المساندة الإيرانية للمقاومة في لبنان، وتعبر عن خطة طهران لبناء ائتلافات إقليمية متينة للتعامل مع التحديات المشتركة، مساهمة في تغييرات إيجابية ضمن الديناميكيات الإقليمية.
السياق العام: ضغوط أمريكية متصاعدة على الحشد الشعبي
تشهد الساحة العراقية منذ فترة متواصلة ضغوطاً أمريكية مكثفة على الحكومة العراقية من أجل الحد من نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران داخل الحشد الشعبي. 20 هذه الفصائل، وعلى رأسها كتائب حزب الله وحركة النجباء، تُصنفها واشنطن كمنظمات إرهابية، وترى في وجودها تهديداً مباشراً لسيادة العراق واستقراره الأمني. الولايات المتحدة تطالب بضرورة دمج جميع هذه الفصائل بشكل كامل داخل القوات الأمنية العراقية، أو حلّها، وذلك ضمن استراتيجية للحد من ما يُسمى “السلاح المنفلت” الذي يزعزع الأمن الإقليمي.
في الأشهر الأخيرة، وخاصة في أغسطس 2025، عبّرت السفارة الأمريكية في بغداد عن قلقها العميق من مشروع قانون الحشد الشعبي الجاري مناقشته في البرلمان العراقي، معتبرة أن هذا القانون يعزز النفوذ الإيراني ويقوي الجماعات المسلحة التي تصفها بالإرهابية، مما قد يؤدي إلى تدهور العلاقات الأمنية بين واشنطن وبغداد. في الوقت ذاته، تستغل الولايات المتحدة سقوط النظام السوري وحالة حزب الله بعد قرار نزع سلاحه لإحداث تغيير جذري في توازن القوى الإقليمية عبر الضغط على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لإعادة تشكيل دور الحشد الشعبي، أو حتى تفكيكه.
أهداف زيارة لاريجاني: تعزيز النفوذ الإيراني ودعم مشروع قانون الحشد
في هذا السياق المتوتر، جاءت زيارة علي لاريجاني إلى بغداد كمحاولة واضحة من طهران للدفاع عن موقعها الاستراتيجي في العراق عبر الحشد الشعبي. وبحسب مصادر ومن خلفيات محلية، كانت زيارة لاريجاني تهدف أساساً إلى تقديم الدعم السياسي والتقني لمشروع قانون الحشد الشعبي الذي يسعى إلى تثبيت مكانة الحشد كمؤسسة رسمية ضمن الهيكل الأمني العراقي. هذا القانون يشكل ضمانة لإيران بأن نفوذها عبر الفصائل المسلحة سيبقى قائماً ومرسخاً، خاصة في ظل محاولات أمريكية لإضعاف هذا النفوذ.
كما ناقش الطرفان مخاوف عراقية حقيقية من ردود الفعل الأمريكية المحتملة في حال إقرار القانون، والتي قد تشمل فرض عقوبات اقتصادية أو عسكرية على بغداد. 24 وعليه، كان لاريجاني حريصاً على طمأنة المسؤولين العراقيين حول الدعم الإيراني في مواجهة هذه التحديات، خصوصاً في ضوء التغيرات السياسية الإقليمية التي تقلص من قدرة إيران على المناورة.
العلاقة الوثيقة بين الزيارة والضغوط الأمريكية
زيارة لاريجاني يمكن فهمها كخطوة رد فعل إيرانية استراتيجية تجاه الضغوط الأمريكية المتصاعدة. توقيع مذكرة التفاهم الأمنية مع مستشار الأمن القومي العراقي يعزز التنسيق بين الطرفين، ويمثل رسالة بأن إيران تملك أذرعاً نافذة داخل الدولة العراقية، خصوصاً في الملفات الأمنية الحساسة مثل الحشد الشعبي.
الأطراف العراقية، ممثلة بالإطار التنسيقي وقوى أخرى، تواجه معضلة كبيرة بين الحفاظ على علاقات متوازنة مع واشنطن وطهران. فمن جهة، ترغب الحكومة في تعزيز سيطرتها على الأجهزة الأمنية، ومن جهة أخرى، لا تريد المخاطرة بفقدان الدعم الإيراني أو الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع واشنطن. تأتي زيارة لاريجاني لتزيد من تعقيد هذا المشهد، حيث تقدم الدعم الفعلي لمشروع القانون الذي تراه واشنطن تهديداً لسيادة العراق.
حادثة الدورة في يوليو 2025، التي اتهمت فيها فصائل مقاومة ، كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت مزيداً من الضغوط الأمريكية لتقييد دور الحشد. وتزامنت زيارة لاريجاني مع هذا التوقيت الحساس، ما جعلها تبدو كخطوة إيرانية لإعادة ترتيب الأوراق وضمان بقاء الحشد كمؤسسة مستقلة نسبياً، وعدم تفكيك فصائله.
وجهات نظر متباينة من الأطراف المختلفة
-
- من وجهة نظر إيران: الحشد الشعبي هو خط الدفاع الأول في مواجهة النفوذ الأمريكي و الصهيوني، ويمثل أداة استراتيجية للحفاظ على مصالح طهران في العراق والمنطقة. زيارة لاريجاني تهدف إلى حماية هذه الأداة وضمان استمراريتها في ظل الضغوط المتزايدة.
-
- من وجهة نظر الولايات المتحدة: مشروع قانون الحشد الشعبي هو تهديد مباشر لسيادة العراق ويعزز نفوذ إيران غير المقبول، مما يستوجب المزيد من الضغوط السياسية والأمنية على بغداد لإجبارها على تفكيك هذه الفصائل أو دمجها بشكل كامل في الجيش العراقي.
-
- من وجهة نظر الحكومة العراقية: هناك محاولة دائمة للموازنة بين الضغطين المتعارضين، الأمريكي والإيراني. إقرار قانون الحشد الشعبي قد يعزز سلطة الدولة على الحشد، لكنه في الوقت نفسه قد يؤدي إلى عقوبات وتوترات مع واشنطن، خصوصاً في ظل بيئة إقليمية متقلبة.
أخيراً ، تتجسد هذه الزيارة في واقع الصراع الإقليمي الأكبر بين إيران والولايات المتحدة، حيث العراق يبقى ساحة مركزية ومفتوحة لهذا التنافس، وما زيارة لاريجاني إلا مؤشر جديد على استمرار هذا الصراع على الأراضي العراقية.