غزة تُخنق بأيدٍ عربية ❗

حوراء المصري:
هنا، من إحدى ممرات مستشفى غزة الأوروبي، اختلطت رائحة الدم برائحة المعقمات. يجلس في زاوية الردهة طفلٌ لا يتجاوز عمره العشر سنوات، يحدّق بعينين واسعتين في القتلى والجرحى من حوله. لا دموع، لا مشاعر، وكأنه تخطّى مرحلة البكاء. تمر بجانبه طبيبة منهكة وهي تحمل علبة الإسعافات، تبتسم له لعلّها تزرع الاطمئنان بداخله، ثم تمضي نحو غرفة العمليات حيث يقاتل الأطباء الزمن لإنقاذ الجرحى، رغم قلة المستلزمات الطبية.
القتلى بلا أكفان، والجرحى بلا دواء. هذه الصورة من داخل المستشفى، فلك أن تتخيّل هول المنظر في الخارج: خراب، دمار في كل مكان، لا ماء، لا كهرباء. غزة اليوم تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، ولا يفصلها عن النجاة سوى بوابة حديدية، هي “معبر رفح”، المغلق أمام مئات القوافل المحمّلة بالمساعدات الإنسانية، بأمر من الاحتلال وصمتٍ مصري معلن.
“مصر بين المعلن والمخفي”
دائماً ما تُظهر مصر في تصريحاتها الرسمية لوسائل الإعلام أنها داعم حقيقي للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، إلا أن هذه التصريحات تلقى انتقادات لاذعة لكونها لا تنطبق على أرض الواقع. الشعب يتهم مصر بالتقاعس عن مساعدة غزة عبر إغلاقها لمعبر رفح، ومواصلة الأعمال التجارية بينها وبين الاحتلال بشكل فعّال.
بعض الناشطين عبّروا عن غضبهم من الحكومة المصرية، ممثَّلة بـ”عبد الفتاح السيسي”، متهمين إياه “بالتواطؤ” مع الكيان في حرب غزة، مشيرين إلى أن مصر تتحدث عن الدعم في وسائل الإعلام فقط.
إن اعتراض مصر للطائرات المسيّرة الموجهة من محور المقاومة نحو الأراضي المحتلة أثبت التهم الموجهة للحكومة المصرية، وجعل التصريحات الرسمية للقاهرة أضحوكة. مصر عبر أقوالها الكاذبة تخفي حقيقة نواياها التي أصبحت مكشوفة ومفهومة من قبل الشعبين المصري والفلسطيني، بفضل حرب “طوفان الأقصى”.
“معبر رفح… خط الحياة المغلق ❗”
معبر رفح ليس مجرد بوابة حديدية، بل هو بمثابة الشريان الأبهر لقطاع غزة. “رفح” هو المنفذ البري الوحيد الذي يربط غزة بالعالم دون الحاجة للمرور بأراضي الكيان الصهيوني. إلا أن هذا المنقذ اليوم مغلق أمام القطاع.
القوافل تقف منذ بدء العدوان، أُدخل جزء بسيط منها في بدايات الحرب، أما اليوم فتصطف في طوابير، ولا يُسمح لها بإدخال المساعدات الإنسانية والمستلزمات الطبية لأهالي غزة. الحكومة المصرية دائماً ما تقدم حججاً غير مقنعة بشأن إغلاق المعبر، بينما إذا نظرنا إلى الجانب الآخر، نرى المساعدات والموارد تدخل بشكل سلس إلى الأراضي المحتلة دون قيود، في حين تُفرض القيود المشددة على غزة، ويستعملها الكيان كورقة ضغط على المقاومة، وبالأخص حماس، ومصر تنفذ هذه القيود برحابة صدر، غير مبالية بأرواح الأطفال والنساء التي تُزهق يومياً تحت أيدي الاحتلال.
“موانئ مصر… من شريان عربي إلى رئة يتنفس منها الكيان”
في الوقت الذي يُحاصَر فيه أكثر من مليوني فلسطيني داخل غزة، تحوّلت خمسة موانئ مصرية على البحر الأبيض المتوسط — بورسعيد، وأبوقير، والإسكندرية، والدخيلة، ودمياط — إلى مراكز إمداد رئيسية للكيان الصهيوني.
تتبّع حركة 19 سفينة خلال ثلاثة أشهر من الحرب على غزة كشف عن رحلات منتظمة بين هذه الموانئ والموانئ المحتلة. ست سفن مخصصة لنقل الإسمنت باتت تذهب وتعود بين الموانئ المصرية والموانئ الصهيونية وكأن الحرب غير قائمة، رغم أن الإسمنت يعد مادة أساسية في بناء المستوطنات وتحصين مواقع الاحتلال.
المفارقة أن هذه السفن لم تكن مصر ضمن وجهاتها الأولى في عامي 2022 و2023، لكنها، وبمجرد اندلاع العدوان على غزة، أصبحت الموانئ المصرية محطتها الأهم. والأرقام لا تكذب: صادرات مصر إلى الكيان منذ أكتوبر 2023 وحتى نهاية يوليو 2024 بلغت 170.1 مليون دولار، بزيادة ملحوظة عن الأعوام السابقة. أما الواردات من الكيان فقد تضاعفت ثلاث مرات تقريباً، لتصل إلى أكثر من 331 مليون دولار خلال نفس الفترة.
“ازدواجية الموقف المصري”
على المنابر، مصر تتحدث عن رفض العدوان ودعم الشعب الفلسطيني، لكن على أرض الواقع، موانئها تفتح أبوابها، وسماؤها تمنع طائرات المقاومة، ومعبرها البري يُغلق في وجه الجرحى والأطفال.
هذه الازدواجية ليست مجرد سياسة براغماتية كما يبررها البعض، بل هي مشاركة فعلية في إطالة أمد العدوان، وخنق غزة اقتصادياً، وضرب صمودها من الداخل.
“الخاتمة… غزة لا تنسى”
التأريخ لن يرحم من شارك أو صمت أو تواطأ. غزة التي تقاوم بدمها، تحفظ الأسماء والوجوه، وستذكر جيداً من أغلق بابها في وجه الدواء، ومن مدّ يد العون لقاتلها.
في زمن يُختبر فيه الشرف العربي، كان موقف القاهرة امتحاناً، لكن النتيجة حتى الآن مؤلمة ومخجلة.