“خطاب المقاومة وتأثيره….. أبو عبيدة أنموذجاً”

حوراء المصري:
لم تعد الحروب في يومنا هذا تعتمدُ اعتماداً كاملاً على قدراتها العسكرية بل دخلت في منحى آخر يضمن لها التأثير على الشعوب بما يعرف بـ”الخطاب”، الذي قد يؤجج أو يهدئ الصراعات، من هنا برز مفهوم خطاب المقاومة والذي عمل محور المقاومة على تقويته وجعله أكثر تأثيراً في المجتمع فهي أداة تستكمل الفعل العسكري ولا تقل أهمية عنه.
أثبتت نفسها الكلمة في الكثير من الدول ولا سيما دول الشرق الأوسط ومحور المقاومة تحديداً، ففي فلسطين لمعَ اسمُ الناطق باسم كتائب القسام المعروف بأبو عبيدة، فوصفه الكثير بأنه أنموذجاً بارزاً لهذا الخطاب، حتى صار صوتاً مهماً في الساحة الفلسطينية والإقليمية فينتظره الشعب في أوقات الحرب كما ينتظر الميدان أصوات النصر، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا صدحت خطابات أبو عبيدة كثيراً؟
“أبو عبيدة….. الخطيب الملثم”
في خضم الصراع ينتظر الناس ظهور صوتٍ يعرفونه جيداً، صوتٌ يأتي من خلفَ كوفيةٍ حمراء، يخفى ملامحَ المقاتل المهيب، إنه أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، والذي تحول من متحدثٍ عسكريٍ إلى رمزٍ شعبيٍ وروحيٍ للمقاومة الفلسطينية.
منذ ظهوره الأول التزم أبو عبيدة بظهورٍ غامض فلم يظهر وجهه في أي من خطاباته، وذلك بهدف الحفاظ على سريته، فأحاطت به هالة كبيرة من الغموض والإثارة مما جعل الكيان يحاول استهدافه مراراً وتكراراً، فمع كل جولةٍ من جولات الحرب على غزة، ينتظره الناس على أحرٍ من الجمر لسماعِ كلماته المدوية التي لطالما أرعبت الاحتلال الغاشم وبينت فشله الذريع في غزة، يعتبره الكثير من الغزاويين مصدر أمانٍ يحيط بهم.
لم تكن يوماً خطاباته متكلفة وهو ليس سياسياً من الطراز التقليدي، فقد اتخذ طريقة خاصة ميزته عن سائر المقاومين أو القياديين.
فتميزُه لم يكن بسبب شخصيته القوية الجذابة فقط وإنما يعود ذلك أيضاً لأسلوبه الخطابي الذي تفرد به عن غيره، فجمع بين البساطة والبلاغة مما أتاح له أن يترك بصمته على الجمهور والعدو على حد سواء، لذا ما هي هذه الخصائص التي برع بها أبو عبيدة؟
“أبو عبيدة….. عنوانُ البلاغة والبساطة”
إن مزج أبو عبيدة للبلاغة والبساطة في آن واحد، جعل من كلماته تصدح في الأفق محلقة عالياً، فدائماً ما يعتمد على إظهار خطابٍ مفهوم لعامة الناس بعيد كل البعد عن التعقيد السياسي والمصطلحات العسكرية الدقيقة التي قد لا يفهمها الشعب، فعمل على اختيار كلمات قصيرة وواضحة تصل بسرعة ولا تحتاج لشرحٍ مطول، إلا أن خطاباته لم تقف عند البساطة فقط لأنه عمل على تكرار بعض المفاهيم التي تهدف لترسيخ عقيدة المقاومة وتعبئة الجمهور ضد الكيان مثل: “العدو سيدفع الثمن”، “المقاومة على العهد”، “النصر قادم”. هذه الكلمات والشعارات لم تؤثر على الشارع الفلسطيني فقط بل جعلت من الكيان يشك في قدراته وأن هذه المقاومة غير قابلة للكسر.
حملت خطابات أبو عبيدة القوة والرحمة معاً فتراه يوجه تهديداً شديداً للكيان بينما يطمئن أبناء شعبه، هذا التوازن جعله قاسياً مع العدو ورحيماً مع الداخل مما جعل قاعدته الجماهيرية تتمدد.
“أبو عبيدة: بين طمأنة الداخل وتهديد العدو”
نعم، يمكن القول بثقة بالغة، إن كلمات أبو عبيدة وهي خليط من البلاغة والبساطة، كانت سلاحاً فعالاً في التأثير النفسي والمعنوي على الداخل الفلسطيني ولا سيما الغزاوي، أو على العدو الصهيوني الذي لطالما أرعبته هذه الخطابات.
هذه الكلمات كانت سبباً رئيساً في صمود الشعب الفلسطيني ضد العدوان الغاشم، فعمل على رفع معنويات الشعب خصوصاً في لحظات القصف المرعبة وسقوط الشهداء، استخدامه لبعض الشعارات الرنانة التي تبث الأمل للشارع مثل: “لن نخذلكم” أو “المقاومة بخير”، فهي بمثابة جرعة نفسية تشعرهم بصمود المقاومة رغم الضغوطات التي تواجهها.
لطالما حملت كلماته جانباً قاسياً يوجهه نحو الاحتلال وداعميه، فلغته الحازمة فضلاً عن إعلانه مفاجآت ميدانية، مما يخلقُ حالةٍ من القلق تجتاح النفوس الصهيونية، فالكيان يتعامل مع كل خطابٍ من خطاباته على أنه احتمال لكشف خسائر جديدة في صفوف العدو، مما يضاعف الضغط النفسي على الجنود والمستوطنين.
شخصيته أبو عبيدة بما تمتلكه من (قناع، صوت هادئ، بلاغة وثبات) خلفت حالة من الإلهام لبعض الشباب الفلسطيني والعربي المقاوم، جعلت منه رمزاً للقوة والصمود مما ساعد على تدعيم القضية بعدما كادت تُنسى بسبب بعض العرب المتصهينين والغرب.
على الرغم من أن خطاباته تحمل بعداً نفسياً ومعنوياً إلا أن دون استثماره لوسائل الإعلام لما كان يصل إلى هذا العدد الكبير من الناس في الداخل والخارج الفلسطيني.
“الإعلام….. صوت خطاب المقاومة”
إن هذه القوة الخطابية التي تمتع بها أبو عبيدة كانت بفضل استثمارهم للقوة الإعلامية التي جعلت من كلماته تصدح في المنطقة كلها.
فالتوقيت المدروس للظهور الإعلامي زاد من تأثير خطاباته على الجمهور والاحتلال، فظهور أبو عبيدة أصبح حدثاً يترقبه الشعب الفلسطيني والعربي ككل، إن المصداقية في التغطية الإعلامية للمقاومة في الداخل الفلسطيني عززت صورتها في الداخل والخارج، فالإعلام يعمل كجسر ينقل الرسائل الرمزية كالصمود والثبات، مما جعلها أداة إستراتيجية فعالة في توجيه الوعي السياسي.
“البعد السياسي والاستراتيجي”
خطابات أبو عبيدة ساهمت في توجيه الوعي الجمعي للمجتمع العربي والفلسطيني و أثرت تأثيراً كبيراً على السياسة الداخلية والإقليمية فضلاً عن الدولية.
خطاباته غالباً ما تحمل إنذارات وتهديدات واضحة موجهة للعدو، مثل تحذيره من المساس بالمدنيين أو محاولة التلاعب بالمفاوضات، فهذه التهديدات لم تبقَ رهينة الإعلام فهي تؤخذ على محمل الجد من قبل الكيان الصهيوني.
الجدير بالذكر أنه حينما يتحدث أبو عبيدة لا يخاطب فقط الداخل الصهيوني فهو يوصل رسائل غير مباشرة لداعمي الكيان في المنطقة لا سيما مصر والسعودية والإمارات، دائماً ما تضمنه خطاباته شروطاً تضع المقاومة في موضع قوة في طاولة المفاوضات.
كانت ولازالت خطاباته تثبت شرعية المقاومة وأنها عقيدة راسخة في الوجدان العربي للمقاومين، وإنها السبيل الوحيد للعيش بكرامة.
“خطباء المقاومة وحدة الهدف واختلاف الشخصيات”
مع وضوح الأبعاد السياسية والاستراتيجية لخطابات أبو عبيدة، يجدر الذكر أن هذه القوة الخطابية لم تكن حكراً على المقاومة الفلسطينية، فقد تميز بها محور المقاومة ككل، كلبنان واليمن والعراق وإيران، من هنا تظهر أهمية المقارنة لفهم لماذا نجح أبو عبيدة في التحول إلى أنموذج بارز في خطاب المقاومة.
فمثلاً، حزب الله في لبنان أثناء قيادة الشهيد حسن نصر الله، كانت خطاباته تُترجم من قبل الإعلام الغربي وتصوَّر على أنها أحداث مهمة للعالم بأسره وليس الشرق الأوسط فقط.
إلا أن ما جعل أبو عبيدة أكثر شهرة هو تقمصه شخصية الرجل الخفي على عكس باقي القياديين في المنطقة، الذين كشفوا عن أنفسهم بكل وضوح، فغموض شخصيته زاد من رمزيته.
فضلاً عن قدرته على الدمج بين الرسالة العسكرية والبعد الروحي جعل من خطابه يتجاوز حدود السياسة ويصبح رمزاً معنوياً مهماً.
وهكذا يظهر لنا أن خطاب أبو عبيدة ليس حالة فلسطينية معزولة وإنما هي نتيجة تجارب عالمية تعلمها من بعض المقاومين والخطباء في محور المقاومة، وخير مثال الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله.
“خطاب المقاومة: قوة الكلمة في مواجهة الرصاص”
إن خطاب المقاومة، كما جسده أبو عبيدة، أثبت أن الكلمة لا تقل أهمية عن السلاح، فهي تمثل أداءً فعالاً في ردع الاحتلال، فرغم تخفي أبو عبيدة تحت قناعٍ بقيت خطاباته تحمل قدراً كبيراً من القوة والتأثير المباشر في الداخل والخارج الفلسطيني، بيّنت أن الكلمة عندما تخرج من قلبٍ مؤمنٍ مناضلٍ قادرة على أن تصنع الأمل في النفوس وتكتب معركة الوعي التي لا يمحوها الزمان.