انهيار الليرة السورية: زلزال اقتصادي بعد خضوع النظام الجديد للإرادة الأمريكية – قراءة تأريخية

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
في التاسع من أيلول/سبتمبر 2025، سجّل سعر صرف الدولار الأمريكي حوالي 13,002 ليرة سورية. هذا الانهيار المستمر في قيمة العملة الوطنية لا يُقرأ بوصفه أزمة نقدية عابرة، لأنه ببساطة زلزال اقتصادي ــ تأريخي ــ يفضح عمق التدمير الممنهج لسوريا الدولة والمجتمع والاقتصاد، ويؤكد أن النظام السوري الجديد لم يدخل الطوق الأمريكي – الصهيوني فقط ، فقد انخرط ضمن هندسة سياسية واقتصادية مرسومة سلفًا لتفكيك مراكز القوة في المنطقة.
من الاستقرار إلى الانهيار: مسار تأريخي مدروس
قبل عام 2011، كان سعر صرف الدولار يقف عند 50 ليرة سورية، فيما كان الاقتصاد السوري يتجاوز 60 مليار دولار. بعد اندلاع الحرب التي قادتها أمريكا وعموم الغرب والكيان الصهيون ودول عربية نافذة ، انكمش الناتج المحلي إلى أقل من 20 مليار دولار عام 2025. هذا التراجع بنسبة تزيد عن 65% لم يكن وليد العفوية، بل نتيجة مباشرة:
• للحرب الممتدة أكثر من 14 عامًا، التي استنزفت البنية التحتية والصناعات الوطنية.
• للعقوبات الغربية المتواصلة، والتي كبّلت الحركة الاقتصادية والتجارية.
• لسياسات نقدية عشوائية، قامت على طباعة النقود وتمويل العجز بلا غطاء.
هكذا تحولت الليرة من رمز للاستقرار إلى أضعف العملات عالميًا، بانخفاض يتجاوز 25,000% عن قيمتها قبل الحرب.
التحول السياسي: من الأسد إلى الشرع… من الاستقلال إلى الهيمنة الأمريكية
سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بدا حدثًا تأريخيًا فارقًا. لكنّ صعود أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) إلى رئاسة الحكومة الانتقالية في كانون الثاني/يناير 2025 لم يُدخل سوريا إلى الاستعمار السياسي، بل جعل الراعي متعدد الأطراف .
• بعد أسابيع من توليه المنصب، دخل الشرع في قنوات تفاوض مباشرة مع واشنطن.
• في حزيران/يونيو 2025، ألغت الولايات المتحدة بعض العقوبات، مقابل التزام الحكومة الجديدة بـ”إعادة التموضع” السياسي.
• في تموز/يوليو، كشفت تقارير غربية أن لقاءات غير معلنة جرت بين ممثلين عن الشرع ودبلوماسيين مرتبطين بالكيان الصهيوني.
بهذا، باتت سوريا الانتقالية أشبه بكيان تابع، يُدار وفق الرؤية الأمريكية – الصهيونية، تمامًا كما جرى في حالات أخرى داخل المنطقة.
الأرقام تكشف: التدمير هدف لا نتيجة
حين نقارن بين مؤشرات الاقتصاد السوري وتأريخ المنطقة الأوسع، تتضح الخطة:
• سوريا: انكماش الناتج من 60 إلى 20 مليار دولار، وانهيار الليرة إلى 13,000 للدولار.
• العراق: رغم امتلاكه أكثر من 10% من احتياطي النفط العالمي، يعيش أزمة ديون وهيمنة اقتصادية أمريكية منذ 2003.
• مصر: تراجع الجنيه بنسبة تتجاوز 70% منذ 2016، وسط تبعية قاسية لشروط صندوق النقد.
• إيران: رغم امتلاكها مع فنزويلا 34% من احتياطي النفط العالمي، تُحاصر بعقوبات مستمرة تهدف إلى تقييد دورها الإقليمي.
هذه الأرقام مؤشرات على إستراتيجية صهيونية – أمريكية قديمة: ضرب الدول ذات الثقل السكاني والجغرافي والاقتصادي في المشرق العربي والإسلامي، لضمان تفوق الكيان الصهيوني كقوة مهيمنة، مدعومة من الغرب.
المجتمع السوري: الانهيار المستمر
اليوم، يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، فيما يتجاوز التضخم 141%. أكثر من 7 ملايين طفل يحتاجون مساعدات إنسانية عاجلة، بينما البطالة تفوق 50%.
حتى بعد سقوط الأسد، بقي الاقتصاد رهينة اقتصاد الظل والاعتماد على الحوالات الخارجية. والنتيجة: السوريون يقفون في الطوابير ذاتها، ويواجهون الأسعار ذاتها، مع اختلاف وحيد أن النظام الجديد يقدّم الانهيار بغطاء “شرعية دولية” متماهية مع واشنطن والكيان اللقيط.
قراءة في التأريخ: من سايكس بيكو إلى اليوم
منذ سايكس بيكو 1916 وحتى اتفاقات التطبيع الحديثة، ظلّ الهدف واحدًا: تفتيت المشرق العربي والإسلامي. في كل محطة تأريخية:
• تقسيم فلسطين وقيام الكيان الصهيوني 1948.
• إضعاف مصر بعد 1978 وتكبيلها بمعاهدات سلام.
• ضرب العراق 1991 و2003.
• محاصرة إيران بعقوبات شاملة.
• وأخيرًا تحويل سوريا من دولة مقاومة إلى ساحة صراع ثم إلى نظام تابع.
بهذا تتكامل الصورة: الانهيار الاقتصادي الحالي ليس “نتيجة حرب” خُطط لها بدقة ، وإنما هو جزء من مسار تأريخي مقصود يهدف إلى ضمان أن لا تقوم في المنطقة دولة قوية قادرة على تهديد الكيان الصهيوني.
الليرة كمرآة لاحتلال غير معلن
الليرة السورية اليوم باتت ورق فاقد القيمة، وهي قبل كل شيء مرآة سياسية تكشف أن النظام الجديد مستسلم لإرادة واشنطن و يافا المحتلة.
الأمل بعودة الدولار إلى 50 ليرة كالأمل بعودة الشباب بعد المشيب. الليرة جثة اقتصادية محاطة بالمضاربين، بينما يقف الشعب السوري أعزل أمام انهيار مبرمج.
إن لم تُفك قيود التبعية وتُستعاد الإرادة الوطنية الحقيقية، فإن الزلزال الاقتصادي سيبقى يهز سوريا، تمامًا كما اهتزت من قبل بغداد والقاهرة و ُيراد تكرار ذلك في طهران. والغاية النهائية واحدة: ضمان تفوق الكيان الصهيوني على أنقاض المشرق كله.