الشام الجديد؛ بين وهم الثبات وواقع التطبيع الخفي

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
عندما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2021 في بغداد دعمه العلني لمشروع «الشام الجديد»، بدا الأمر وكأنه نقطة تحول في إعادة تصميم الشرق الأوسط الجديد؛ مشروع تُعاد فيه صياغة الهويات وتُفرض معادلات جديدة تحت مسمّى التنمية والتكامل الاقتصادي. لكن نظرة متعمقة إلى هذا المشروع تكشف عن واقع مختلف: نحن أمام خطة تهدف إلى إعادة بناء هيكل المنطقة بعيداً عن محور المقاومة؛ هيكل هش ومتوافق مع مصالح الكيان الصهيوني، يهرب من أي مواجهة مع آلة الاحتلال.
من سوريا إلى العراق ولبنان، تسير التطورات وكأن الهدف الرئيسي ليس فقط تجاوز الأزمات، بل تجاوز هوية وإرادة شعوب المنطقة. «سوريا الجديدة» التي تُصمم اليوم بأيدي مجموعات مرتبطة مباشرة أو عبر وسطاء بدوائر صهيونية، تتجه خطوة بخطوة نحو تطبيع علني مع الكيان الصهيوني. هذه المجموعات التي كانت مدعومة لسنوات من جهات مشبوهة، باتت اليوم على رأس السلطة، وتحول سوريا إلى منصة لتنفيذ توازنات جديدة خالية من المقاومة، فارغة من العمق الوطني، وتعتمد على خطط اقتصادية أجنبية.
مشروع «الشام الجديد» ليس مجرد برنامج اقتصادي؛ بل هو في الأساس مشروع أمني-سياسي ذو أبعاد واسعة. والمعادلة واضحة:
• سوريا بلا مقاومة
• لبنان خالٍ من حزب الله
• العراق مدمج في مشاريع الطاقة الخليجية والتركية
كل هذه الخطوات تُدار من غرف عمليات غربية، ووسائل الإعلام والأدوات السياسية التابعة تصف كل صوت معارض بالرومانسية أو الوهم، فقط لأنه يرفض قبول واقع التطبيع الذي يفرضه ويشرعن الاحتلال.
ومن اللافت أن الذين يتحدثون اليوم عن «خروج إيران» من سوريا، يتجاهلون عمداً أن البديل المقترح ليس مشروعاً وطنياً سورياً، بل تحالف من مجموعات مرتبطة بالهيكل الغربي-الصهيوني، مجموعات لا تعتبر فلسطين قضية، ولا المقاومة خياراً ممكناً، بل عبئاً إضافياً يجب التخلص منه.
السؤال الأساسي هنا:
هل تحسنت الأوضاع الاقتصادية في سوريا حقاً؟
هل انتهت أزمات لبنان؟
هل استعاد العراق سيادته الوطنية؟
أم أننا أمام عملية تسلل تدريجي تتآكل فيها السيادات، ويُعاد هندسة الرأي العام، وتُقمع المعارضة المنهجية؟
أولئك الذين يستهدفون المقاومة اليوم ويصورونها على أنها هزيمة استراتيجية، يغفلون أن المقاومة كانت العامل الوحيد الذي أنقذ المنطقة من الانهيار التام. بدونها، لم تكن للعواصم العربية هوية أو استقلال، بل كانت تحكمها شركات النفط ومراكز البيانات العسكرية.
إعادة قراءة خطاب سايكس-بيكو، هذه المرة بنسخة ناعمة ورقمية، ليست مسألة عشوائية:
دول بلا جيوش حقيقية، بلا قدرة على اتخاذ القرار، بلا خطاب وطني، تُدار من الخارج وتُفرض عليها سياسات عبر تقارير مراكز الدراسات.
مع ذلك، فرض التاريخ على شعوب هذه المنطقة ليس سهلاً ولا مضمونا. رغم القصف النفسي ومشاريع الحذف والإنكار، لا تزال إرادات في هذه الشعوب حيّة تسير في طريق المقاومة؛ مقاومة ليست مجرد مناورة عسكرية، بل هي تعبير عن هوية ثقافية وسياسية، جرح من سنوات صراع، لكنه ما زال حيًّا وثابتًا. مقاومة تُضيء كالفانوس في بحر الشرق الأوسط المضطرب، تلقي بوميض الكرامة على أمواج النسيان، حتى لو حاول البعض استبدالها بمصباح باهت وبلا روح.
هذه المقاومة هي حافظ الذاكرة الجماعية للأمم؛ ذاكرة تدافع عنها بلغة السلاح وتحيا بعمق المعنى.
في مواجهة مشروع «الشام الجديد»، التحدي الأكبر يبقى يقظة الشعوب. إذا صمتت هذه الشعوب أمام مشاريع الهندسة هذه، فقد تستيقظ يوماً لتجد أن الشرق لم يعد فيه شيء؛ لا شام، لا مقاومة، ولا حتى خارطة.