مقالات الرأي

هوية الرقمية والأفاتارات في عصر الاتصالات الحديثة «الجزء الأخير»

حمیده مولائی، المديرة المسؤولة

مقدمة

في الجزء الأول أشرنا إلى أن الإنسان يحتاج إلى وسيط بصري للتفاعل والتعرف، يسمى «الأفاتار1».

في العالم الافتراضي، يمكن للأفراد تمثيل أنفسهم بشكل مختلف عما هم عليه في الواقع، وبمساعدة الأفاتارات، يمكن للمستخدمين إعادة تشكيل الشكل، الجنس، العمر، الملابس، لغة الجسد وحتى الهوية الاجتماعية الخاصة بهم، والدخول في تفاعلات رقمية بصيغة جديدة.

يمكن تعريف الهوية الرقمية2 بأنها هوية متعددة الطبقات، مزيج من الاختيار الواعي والبناء المنهجي الذي يتشكل من خلال التفاعل مع التكنولوجيا والثقافة والسلطة.

في هذا الجزء سنتناول إعادة بناء الهوية في البيئات الرقمية، الأفاتارات والتفاعلات الاجتماعية، بالإضافة إلى التحديات الأخلاقية والاجتماعية.


إعادة بناء الهوية في البيئات الرقمية

من الخصائص البارزة للتواصل الرقمي هو إمكانية إعادة بناء أو إعادة تشكيل الهوية. في البيئات الإلكترونية، يمكن للمستخدمين خلق هويات مختلفة عن هويتهم الحقيقية، وتجربة أدوار متعددة، أو إظهار أبعاد مكبوتة من شخصياتهم. تظهر هذه العملية بوضوح في الشبكات الاجتماعية، الألعاب الجماعية عبر الإنترنت، بيئات الواقع الافتراضي والميتافيرس. إعادة بناء الهوية في هذه الأماكن تعني اختيار المستخدم للاسم، الجنس، المظهر، طريقة الحديث، السلوك وحتى المواقف (Donath, 1999).

شيرى توركل (Turkle, 1995) في كتابها الشهير Life on the Screen تصف الفضاء الافتراضي بأنه “مختبر الهوية” حيث يمكن للمستخدمين تجربة ذوات مختلفة بدون خوف من الحكم الاجتماعي. وتعتقد أن الإنترنت، خصوصًا في البيئات متعددة المستخدمين، يتيح تجربة أدوار وهويات بديلة. تقول توركل:

“في الفضاء الافتراضي، يمكنك أن تكون رجلاً بينما أنت في الواقع امرأة؛ يمكنك أن تقدم نفسك كشخص بالغ بينما أنت مراهق؛ أو يمكنك ألا تكون إنسانًا إطلاقًا.” (Turkle, 1995, p. 212)

هذه العملية قد تحمل آثارًا إيجابية وسلبية في آن واحد. من جهة، تجربة هويات مختلفة قد تزيد من الوعي الذاتي، التعاطف والمرونة النفسية. من جهة أخرى، قد يتلاشى الحد الفاصل بين الهوية الحقيقية والمزيفة، مما يسبب انشقاقًا في الهوية أو اعتمادًا مفرطًا على الشخصية الرقمية (Suler, 2004).

في نظرية ذات صلة، قدم جون سولر (Suler, 2004) مفهوم «تأثير عدم الكشف عن الهوية عبر الإنترنت3» الذي يشير إلى أن المستخدمين في الفضاء الرقمي – بسبب الطابع المجهول والمسافة الفيزيائية – يعبرون بسهولة أكبر عن الجوانب المخفية من شخصياتهم. هذا التأثير قد يؤدي إلى مزيد من الصراحة أو، على العكس، إلى ظهور سلوكيات غير معتادة ومدمرة.


الأفاتارات والتفاعلات الاجتماعية

في الفضاء الرقمي، “الأفاتار” ليس فقط تمثيلاً بصريًا للفرد، بل هو الأداة الأساسية للتفاعلات الاجتماعية. الأفاتارات التي قد تكون ذات أشكال إنسانية، حيوانية، خيالية أو مجردة، تمثل وسيلة للحضور والتواصل في البيئات الرقمية؛ من الألعاب الإلكترونية إلى منصات الميتافيرس، الواقع الافتراضي، الشبكات الاجتماعية ثلاثية الأبعاد وحتى الاجتماعات الافتراضية (Taylor, 2002).

في هذه البيئات، يتحول الأفاتار إلى الوجه الاجتماعي للفرد. عبر تصميم مظهر الأفاتار، اختيار الملابس، الحركة، تعبيرات الوجه وأسلوب التفاعل، يرسل المستخدمون رسائل حول شخصياتهم، أنماط حياتهم وحتى معتقداتهم. وفقًا لنظرية “عرض الذات” (Goffman, 1959)، كل فرد يلعب دورًا معينًا في التفاعلات الاجتماعية؛ وهذه النظرية تنطبق أيضًا على البيئات الافتراضية، حيث يمكن اعتبار الأفاتارات “أقنعة رقمية” يعرض بها الأفراد أنفسهم أمام الآخرين.

من ناحية أخرى، يشير بير ليفي (Lévy, 1997) في مفهوم “الذكاء الجماعي” إلى أن الأفاتارات تمثل المستخدمين في الفضاءات الرقمية، وتعتبر جزءًا من الشبكات الاجتماعية وعملية تكوين المعرفة المشتركة. تلعب دورًا نشطًا في المشاريع التشاركية، البيئات التعليمية الافتراضية والمنتديات الرقمية، وتساهم في تشكيل رأس المال الاجتماعي.

لكن استخدام الأفاتارات في التفاعلات الاجتماعية لا يخلو من تحديات. أحيانًا، قد يؤدي مظهر أو سلوك الأفاتار إلى تحيزات، صور نمطية أو تمييز رقمي. مثلاً، أظهرت الدراسات أن المستخدمين غالبًا ما يتصرفون بشكل مختلف تجاه الأفاتارات ذات المظاهر العرقية أو الجنس الأنثوي، مما يعكس تحيزات العالم الحقيقي في الفضاء الرقمي (Nakamura, 2002).

بشكل عام، الأفاتارات كأدوات للتفاعل، ليست مجرد تمثيل “هوية الفرد”، بل تبني جزءًا من الواقع الاجتماعي الرقمي، حيث الحدود بين الواقع والافتراض، الإنسان والبيانات، التفاعل الحضوري والافتراضي في حالة تغير مستمر.


التحديات الأخلاقية والاجتماعية

واحدة من أهم هذه التحديات هي انتهاك الخصوصية. قد يتم جمع وتحليل واستخدام بيانات الهوية الرقمية – بما في ذلك البيانات السلوكية، الاهتمامات وحتى البيانات البيومترية في بيئات الواقع الافتراضي – دون علم المستخدمين أو موافقتهم الكاملة. حسب (Helen Nissenbaum, 2004)، المشكلة ليست فقط في كشف المعلومات، بل في “سلامة السياق المعلوماتي4″، أي أن المستخدمين قد لا يعلمون في أي سياق، من قبل من ولأي غرض تُستخدم بياناتهم.

من ناحية أخرى، في البيئات التي تستخدم الأفاتار، تبرز مشكلة الهوية المزيفة والخداع الرقمي5. يمكن للمستخدمين إنشاء أفاتارات تختلف كثيرًا عن هوياتهم الحقيقية، مما قد يؤدي إلى خداع عاطفي، استغلال أو حتى جرائم إلكترونية (Donath, 1999). هذا الموضوع يطمس الحدود بين حرية إعادة بناء الهوية والمسؤولية الاجتماعية في التفاعلات الرقمية.

كما أن التحرش والعنف الرقمي6 يمثلان تحديات بارزة في بيئات الأفاتار. الكثير من المستخدمين، وخاصة النساء والأقليات، أفادوا بتجارب سلوكيات عنيفة، إهانات أو تحرش جنسي رقمي في ألعاب الإنترنت أو الميتافيرس (Gray, 2014). غالبًا ما تتعزز هذه التصرفات بسبب مجهولية المستخدمين ونقص الرقابة، مما يترك آثارًا نفسية واجتماعية عميقة.

من الناحية الاجتماعية، تشكل عدم المساواة الرقمية قضية جدية. ليس لدى الجميع وصول متساوٍ لأدوات بناء الأفاتار، المعرفة التقنية أو الإنترنت عالي السرعة، مما قد يعيد إنتاج الفجوات الطبقية، الجندرية أو العرقية في البيئة الرقمية (Nakamura, 2002). وبالتالي، حتى في العوالم الافتراضية، تتجدد التسلسلات الهرمية والتمييز.

كما تبرز قضية ملكية الهوية والحقوق الرقمية. عندما يتحول الأفاتار أو الشخصية الرقمية إلى علامة تجارية أو أصل اقتصادي – مثل البث المباشر، الألعاب أو NFTs – تثار أسئلة حول الملكية، حقوق النسخ وحتى حقوق ما بعد الموت الرقمي (Floridi, 2013). هذه التحديات تتطلب مراجعة القوانين وأخلاقيات التكنولوجيا.


الخلاصة

الهوية الرقمية والأفاتارات أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من حياتنا التواصلية في العالم الحديث. لقد وفرت وسائل جديدة للتعبير عن الذات، التفاعل، التجربة وحتى الهروب من الواقع. ولكن بقدر ما تمثل هذه الأدوات فرصًا، فإنها تحمل مخاطر أيضًا. من الضروري أن يعمل الباحثون في مجال الاتصال، علماء النفس، مصممو المنصات وصناع السياسات جنبًا إلى جنب مع تطور التكنولوجيا لإيجاد حلول تحافظ على التوازن بين الواقع والافتراض، وتحمي الخصوصية والصحة النفسية للمستخدمين.


  1. أفاتار

  2. الهوية الرقمية

  3. تأثير عدم الكشف عن الهوية عبر الإنترنت

  4. سلامة السياق المعلوماتي

  5. الخداع الرقمي

  6. التحرش الإلكتروني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى