القسم السياسي

الحشد الشعبي في ظلّ التحديات الإقليمية

✍️ نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:

 

من الواضح اليوم أن العلاقات بين إيران والعراق قد تجاوزت الحدود الجغرافية، حيث جمعت بين البلدين روابط التاريخ والثقافة والمصير المشترك، ما جعلهما يقفان جنباً إلى جنب في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية. وقد أثبتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منذ ظهور تنظيم “داعش” الإرهابي في العراق عام 2014، أنها حليف استراتيجي وشريك ثابت إلى جانب الشعب العراقي في أصعب الظروف.

فعندما اجتاح تنظيم داعش مساحات شاسعة من الأراضي العراقية، وسيطر على مدن كالموصل وتكريت، كانت إيران السباقة في تقديم الدعم العسكري واللوجستي والاستشاري للعراق. ولم يكن هذا الدعم نابعاً فقط من معطيات الجوار والتاريخ المشترك، بل جاء تعبيراً عن التزام إيران بثبات العراق وسيادته؛ التزام ظهر جلياً في دعم تشكيل وتطوير هيئة الحشد الشعبي، التي أصبحت اليوم العمود الفقري في معركة دحر الإرهاب.

الدور الداعم لإيران في الحرب ضد داعش

في بداية المعركة ضد داعش، كانت القوات المسلحة العراقية في حالة من الضعف والارتباك نتيجة الفساد وسوء الإدارة في السنوات السابقة. في هذا السياق، أدّت إيران دوراً محورياً من خلال إرسال المستشارين العسكريين، وتقديم الإمدادات اللوجستية، وإرسال الأسلحة، مما ساهم في إعادة هيكلة القوات العراقية وتعزيز الحشد الشعبي.

وقد تواجد قادة كبار مثل الشهيد القائد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الراحل، في قلب جبهات القتال، منسقين مع القوات العراقية لتحرير المدن المحتلة. ولم يكن هذا الدعم محصوراً في الجانب العسكري، بل حمل رسالة واضحة مفادها أن إيران تقف بجانب العراق في معركته ضد الإرهاب، في وقتٍ أظهرت فيه الولايات المتحدة والتحالف الدولي تباطؤاً وشروطاً سياسية في دعمهم.

لقد تأسس الحشد الشعبي بفتوى المرجعية الدينية العليا في النجف عام 2014، وكان تجسيداً للوحدة الوطنية العراقية؛ حيث لبّى عشرات الآلاف من الشباب نداء الدفاع عن أرضهم ومقدّساتهم. وبالاستفادة من خبراتها الأمنية، قدّمت إيران التدريب والدعم اللوجستي لتلك القوات، ما أدى إلى تحقيق انتصارات حاسمة في معارك مثل تحرير تكريت، جرف الصخر وبيجي. ولا يمكن إنكار هذا الدور الإيجابي الذي ساهم في الحفاظ على وحدة العراق ومنع تفتيته تحت وطأة الإرهاب.

الحشد الشعبي: ضرورة وطنية في ظل استمرار الإرهاب

دخلت الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي العراق تحت ذريعة محاربة داعش، إلا أن وجودهم ظلّ محاطاً بالشكوك، خاصةً بعد تراجع تنظيم داعش واستمرار الوجود الأجنبي. وإذا كانت واشنطن تبرر وجودها العسكري بخطر داعش المستمر، فإن الحشد الشعبي—بصفته مؤسسة رسمية تابعة لرئاسة الوزراء—أحق من غيره بالوجود، كونه تجسيداً لإرادة الشعب العراقي الذي لبّى نداء المرجعية لحماية السيادة والأمن الوطني.

التهديدات الأمنية لم تنتهِ بعد، بل ازدادت تعقيداً مع التطورات الإقليمية، لا سيما بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، حيث ظهرت تهديدات جديدة، منها عودة فلول داعش أو بروز تنظيمات إرهابية جديدة تستغل الفوضى السياسية والأمنية في سوريا. كما أنّ شعارات مثل “قادمون يا كربلاء” التي ترفعها جماعات متطرفة مرتبطة بالسلطة الجديدة في دمشق، تعبّر عن نوايا عدائية تجاه العراق، خصوصاً مقدساته.

من جهة أخرى، يشكّل مشروع ما يُعرف بـ “ممر داوود”، والذي يُروّج له كخطة صهيونية لربط الكيان الإسرائيلي بالخليج عبر الأردن والعراق، تهديداً استراتيجياً للأمن القومي العراقي. وتُبرز هذه التهديدات أهمية استمرار وجود الحشد الشعبي كقوة ردع وطنية في وجه أي اعتداء أو مؤامرة تستهدف العراق.

من منظور القانون الدولي، لا يزال العراق في حالة حرب مع الكيان الصهيوني، إذ لم يوقع على اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1949 ولا على أي اتفاق سلام مع هذا الكيان المغتصب. وهذا الوضع يجعل من الحشد الشعبي ضرورة استراتيجية لمواجهة أي تهديد محتمل من هذا الكيان، خاصة في ظل الدعم المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة له. فالحشد الشعبي، بصفتها مؤسسة رسمية تابعة للدولة العراقية، تمثل درعاً وطنياً ضد أي عدوان خارجي، سواء كان من الكيان الصهيوني أو من الجماعات الإرهابية المدعومة من قوى إقليمية أو دولية.


لماذا تتدخل الولايات المتحدة في الشؤون السيادية؟

السؤال المحوري هو: لماذا تتدخل الولايات المتحدة في مسألة سيادية مثل قانون الحشد الشعبي؟ الجواب يكمن في طبيعة السياسة الأمريكية التي تسعى لفرض هيمنتها على الدول المستقلة، لا سيما تلك التي تتمتع بموقع استراتيجي مثل العراق. تحاول أمريكا، من خلال تصريحات وزير خارجيتها ماركو روبيو ومسؤولين آخرين، تصوير الحشد الشعبي كأداة إيرانية، متجاهلةً دوره الوطني والرسمية كجزء من القوات المسلحة العراقية. هذه التدخلات ليست جديدة، بل هي جزء من نمط طويل الأمد تهدف من خلاله واشنطن إلى إضعاف أي قوة وطنية مستقلة تهدد مصالحها في المنطقة — سواء عبر دعم الكيان الصهيوني أو السيطرة على مصادر الطاقة في الخليج.


أمريكا: حليف، شريك، محتّل أم وصي؟

منذ احتلال العراق عام 2003، أثبتت الولايات المتحدة أنها ليست حليفاً حقيقياً ولا شريكاً متساوياً. هذا الاحتلال أدى إلى دخول العراق في دوامة الفوضى، وزيادة الفساد، وتدمير البنى التحتية، مما أوجد الظروف المناسبة لظهور داعش — وهو التنظيم الذي اعترف دونالد ترامب بأن أمريكا ساهمت في نشأته.

اليوم تحاول أمريكا أن تفرض نفسها كوصي على القرارات في العراق، من خلال التدخل في قوانين مثل قانون الحشد الشعبي والضغط على الحكومة العراقية لخدمة مصالح الشركات الأمريكية. يعكس هذا السلوك عقلية استعمارية تهدف إلى إضعاف سيادة العراق ومنع نشوء قوة وطنية مستقلة كالحشد الشعبي.


قانون الحشد الشعبي: خطوة نحو السيادة الوطنية

يعتبر مشروع قانون الحشد الشعبي، الذي يضمن الاستقلال الإداري والمالي لهذا الجسم ويعزز هيكله العسكري، خطوة مهمة لترسيخ السيادة الوطنية العراقية. يهدف القانون إلى تنظيم عمل الحشد وتأمين الموارد اللازمة لمواجهة التهديدات الأمنية المستمرة — سواء من داعش أو التهديدات الإقليمية مثل ما يأتي من سوريا أو الكيان الصهيوني. معارضة أمريكا لهذا القانون تعكس مخاوف واشنطن من تحول الحشد إلى قوة وطنية قوية تشبه في تأثيرها الحرس الثوري الإيراني، قادرة على مواجهة الهيمنة الأمريكية في المنطقة.


إدانة التدخل الأمريكي

كان رد الفعل العراقي، سواء من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أو من أعضاء البرلمان، دليلاً على رفض واسع النطاق لتدخل أمريكا. الحشد الشعبي هو مؤسسة عسكرية عراقية ورمز للوحدة الوطنية والمقاومة ضد الإرهاب والتدخلات الخارجية. إصرار ممثلي الشعب العراقي (باستثناء بعض نواب الأكراد والسنة) على إقرار القانون رغم الضغوط الخارجية يعبر عن إرادة عراقية مستقلة لاستعادة السيادة كاملة.


خاتمة

لا يمكن إنكار الدور الإيجابي والحاسم الذي لعبته إيران خلال الحرب على داعش، من خلال تقديم الدعم العسكري واللوجستي للحشد الشعبي والقوات العراقية. وباعتباره مؤسسة وطنية رسمية، يبقى الحشد الشعبي ضرورة استراتيجية في ظل استمرار الإرهاب والتهديدات الإقليمية، خصوصاً بعد سقوط النظام السوري وظهور مخاطر مثل “ممر داوود” والشعارات العدائية تجاه كربلاء.

تدخل أمريكا في قانون الحشد الشعبي هو محاولة أخرى لفرض الوصاية على العراق، ويتطلب ذلك صموداً وطنياً موحداً للدفاع عن سيادة البلاد. بقاء الحشد الشعبي قوة قوية ومستقلة هو الضمان الحقيقي لأمن واستقرار العراق أمام التحديات الداخلية والخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى