نظرة على التوترات الحدودية بين تايلند وكمبوديا؛ الجذور، التطورات، والانعكاسات
في يوم 24 يوليو (الموافق لـ 2 مرداد)، اندلع اشتباك مسلّح بين قوات كمبودية وتايلندية، أسفر حتى الآن عن مقتل العشرات، ولا تزال هذه الاشتباكات مستمرة حتى اللحظة

بحسب تقريرٍ لموقع “صدای سما” الإخباري، اشتعلت من جديد في صيف عام 2025 نيران التوتر على الحدود المتوترة بين تايلند وكمبوديا؛ توتر يبدو عسكرياً في ظاهره، لكنه عميق الجذور من حيث الأسباب، إذ يمتد إلى تاريخ الاستعمار، والتنافس السياسي، والخلافات العائلية بين القادة، والموجات المتزايدة من القومية. ويُعتبر هذا التصعيد أكبر أزمة عسكرية بين البلدين خلال العقد الماضي، ومؤشراً خطيراً على هشاشة السلام في منطقة جنوب شرق آسيا.
الجذور التاريخية لحدود دامية
ترجع بداية العديد من الخلافات بين تايلند وكمبوديا إلى خرائط الحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي، حيث تم ترسيم الحدود بين مملكة “سيام” (تايلند حالياً) والمستعمرة الفرنسية كمبوديا بشكل مبهم، خصوصاً في ما يتعلق بملكية بعض المناطق، بما في ذلك المعابد الأثرية وعلى رأسها معبد “پْرَيهويهير”. ورغم قرار محكمة العدل الدولية عام 1962 الذي منح السيادة على المعبد لكمبوديا، إلا أن تايلند لا تزال تطالب بأراضٍ محيطة به.
خلال العقود الأخيرة، تسببت هذه الخلافات في عدة موجات من التوتر، خاصة بعد إدراج معبد “پْرَيهويهير” ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2008، وهو ما أثار غضب القوميين في تايلند وأدى إلى اشتباكات مسلحة على الحدود.
شرارة جديدة في نار الخلاف
في مايو 2025، وقع اشتباك حدودي في منطقة “شانغ بوك” أدى إلى مقتل جندي كمبودي، قبل أسابيع قليلة من تطورات سياسية مهمة في بانكوك. لكن ما حوّل الحادثة من نزاع حدودي إلى أزمة وطنية وإقليمية، كان تسريب مكالمة هاتفية سرية استغرقت 17 دقيقة بين رئيسة وزراء تايلند “بايتونغتارن شيناواترا” ورئيس الوزراء الكمبودي السابق “هون سين”، وقد أظهرت المكالمة – التي انتشرت بشكل غامض على وسائل التواصل – نبرة ودية من بايتونغتارن وتعهدات بحماية مصالح عائلة “هون”، لا سيما أمام رئيس الوزراء الحالي “هون مانت”. وقد أثارت هذه المكالمة ردود فعل غاضبة داخل الأوساط السياسية والعسكرية التايلندية، ما دفع المحكمة الدستورية إلى تعليق مهام رئيسة الوزراء، وفتح أزمة سياسية عميقة انعكست بوضوح على السلوك العسكري لاحقاً.
تصعيد عسكري واسع النطاق
في يومي 24 و25 يوليو 2025، اندلعت اشتباكات مسلحة في أكثر من 12 نقطة حدودية، حيث شنت القوات الجوية التايلندية هجمات بواسطة مقاتلات F-16، ورد الجيش الكمبودي باستخدام راجمات الصواريخ BM-21. وقد أفادت المصادر بمقتل ما لا يقل عن 32 شخصاً (أغلبهم من المدنيين، بمن فيهم أطفال) وإصابة العشرات، كما تم إجلاء أكثر من 120 ألف مواطن من سكان المناطق الحدودية في تايلند، في حين نزح آلاف الكمبوديين عن منازلهم.
وقد تبادل الطرفان الاتهامات بارتكاب جرائم حرب؛ إذ اتهمت كمبوديا تايلند باستخدام القنابل العنقودية، في حين اتهمت بانكوك كمبوديا باستهداف مناطق مدنية ومدارس ومعابد، بل وحتى معبد “پْرَيهويهير” نفسه.
المساعي الدولية والمواقف الرسمية
مع تصاعد التوتر، عرضت دول مثل الولايات المتحدة، الصين، وماليزيا التوسط، ووافقت كمبوديا على مبادرة وقف إطلاق النار التي طرحتها ماليزيا، إلا أن تايلند انسحبت منها قبل ساعات من تنفيذها. وقد أكدت الحكومة التايلندية أن حل الأزمة يجب أن يتم عبر “قنوات ثنائية”، ورفضت تدخل أي طرف ثالث. وفي هذه الأثناء، استدعى البلدان سفراء بعضهما البعض، مما دفع العلاقات الدبلوماسية إلى حافة الانهيار.
وزير الخارجية التايلندي، “مارس سانغيامپونگسا”، أدان الهجمات العسكرية الكمبودية المتكررة، وحذّر من أن بلاده قد تضطر إلى اتخاذ تدابير دفاعية إضافية في حال استمرار الاستفزازات. ومن نيويورك، وعلى هامش اجتماعات الأمم المتحدة، أكد الوزير التزام بلاده بالحلول السلمية، وأصدر أوامر بخطة لإجلاء المواطنين التايلنديين من كمبوديا، كما تم تعزيز الرحلات الجوية بين بنوم بنه وبانكوك، وطُلب من جميع التايلنديين متابعة الإعلانات الرسمية لضمان سلامتهم.
التغطية الإعلامية في تايلند
تركّز وسائل الإعلام التايلاندية في تغطيتها لهذه الأزمة على عدة محاور رئيسية، منها: الدفاع عن وحدة الأراضي، حماية المدنيين، كشف الدور السياسي لكمبوديا في الأزمة الداخلية لتايلاند، وتبرير الإجراءات العسكرية للبلاد. وقد نُشرت تقارير عن عائلات استُهدفت أثناء فعاليات رياضية مدرسية، ولاجئين تم إيواؤهم في قاعات جامعية، مما زاد من العبء العاطفي في الرأي العام التايلاندي. كما أشارت وسائل الإعلام المحلية مرارًا إلى العلاقة العائلية القديمة بين تاكسين شيناواترا (والد پائتونغتارن) وهون سن، واعتبرتها عاملاً في النفوذ وعدم الاستقرار في هيكل صنع القرار في البلاد.
الأزمة الجارية ليست مجرد نزاع حدودي، بل هي مؤشر على تقاطع ثلاث أزمات متزامنة: أزمة تاريخية تتعلق بحدود غير واضحة، أزمة شرعية سياسية في تايلاند، وأزمة تنافس إقليمي بين دولتين ذواتي بُنى عائلية مركزية. وتشير الأدلة إلى أنه، وعلى الرغم من احتمال تراجع التوترات مؤقتًا، إلا أنه ما لم تُحل القضايا الأساسية مثل ترسيم الحدود رسميًا، وتحقيق الشفافية الدبلوماسية، وإعادة تعريف العلاقات الشخصية داخل دوائر السلطة، فإن احتمال تكرار مثل هذه الأزمات سيظل قائمًا.
في الوقت الذي يطالب فيه المجتمع الدولي بوقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات، يبدي كثيرون مخاوفهم من أن يؤدي عدم احتواء التوتر إلى اندلاع أحد أخطر النزاعات الحدودية في جنوب شرق آسيا خلال السنوات الأخيرة؛ نزاع لا يدور فقط حول الأرض، بل أيضًا حول الهوية والشرعية والسلطة.
وجاء في بيان صادر عن الجيش أن البيانات الفنية حول نوع الأسلحة المستخدمة من قبل كمبوديا تحمل نقاطًا جديرة بالاهتمام. إذ تُعد قاذفات الصواريخ من طراز BM-21 Grad من المعدات الكلاسيكية في الترسانة الكمبودية. ويبلغ مدى النموذج القياسي من هذه الصواريخ (9M22U) حوالي 20 كيلومترًا، غير أن الأدلة في النزاع الأخير تشير إلى استخدام نسخ مطوّرة مثل 9M28F، 9M521 أو 9M522 التي يتراوح مداها بين 30 و40 كيلومترًا.
التحليل والملاحظات:
من الناحية الدبلوماسية، سعت كمبوديا إلى تدويل القضية وطرحها أمام مجلس الأمن الدولي، بهدف ممارسة الضغط الدولي على تايلاند وكسب شرعية دولية لمواقفها. وإذا اقتصر رد مجلس الأمن على إصدار بيان يعرب فيه عن القلق ويدعو إلى ضبط النفس والحوار، فقد يكون ذلك مقبولًا، أما إذا صدر قرار ملزم دون اعتراض من أي من الدول دائمة العضوية، فقد تجد تايلاند نفسها في موقف صعب.
من الجوانب المهمة التي لا ينبغي إغفالها في تحليل هذه الأزمة هو الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتايلاند في إطار استراتيجية “الإندو-باسيفيك” التي تتبناها الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى احتواء النفوذ الصيني وضمان حرية الملاحة في المنطقة. وقد أدّى ذلك إلى تسييس العديد من التوترات المحلية وتحويلها إلى ساحة تنافس جيوسياسي بين القوى العظمى.
رغم أن تايلاند تُعد من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في المنطقة، إلا أنها سعت في السنوات الأخيرة إلى تحقيق توازن في علاقاتها بين واشنطن وبكين. ومع ذلك، فإن موقعها الجيوستراتيجي على سواحل بحر الصين الجنوبي وبالقرب من ممرات بحرية حيوية جعلها محط أنظار صناع القرار في واشنطن.
وفي ظل هذه المعطيات، فإن أي حالة عدم استقرار على الحدود التايلاندية، خصوصًا إذا نشأت عن نزاع مع دولة مجاورة مثل كمبوديا، قد تُستغل كذريعة لزيادة التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، وهو تواجد قد يُسوّق على أنه دفاع عن السلام والاستقرار الإقليمي، بينما يُعد في حقيقته جزءًا من خطة أوسع لاحتواء الصين.
في المقابل، أقامت كمبوديا خلال السنوات الأخيرة علاقات وطيدة مع الصين، واستضافت مشاريع بنية تحتية كبرى ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، مما يجعل النزاع مع تايلاند لا يُفسر فقط كخلاف حدودي، بل يُنظر إليه كجزء من صراع بالوكالة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة الإندو-باسيفيك.
لذا، فإن إدارة هذه الأزمة تكتسب أهمية من زاويتين: الأمن القومي من جهة، وتوازن القوى العالمية من جهة أخرى. وعلى تايلاند أن تحذر من الانزلاق، سواء عن قصد أو عن غير قصد، إلى لعب دور في تصعيد التوتر بين الولايات المتحدة والصين.
النقطة الجديرة بالتأمل هي أن العديد من الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن ينتمون إلى دول نامية أو تربطهم علاقات وثيقة بكمبوديا، كما أن بعض الأعضاء الدائمين مثل الصين وروسيا لديهم علاقات عسكرية قوية مع كمبوديا. لذلك، يتعيّن على تايلاند تجنّب أي تصعيد عسكري يمكن اعتباره عدوانًا، كي لا تُمنح الأطراف الأخرى ذرائع دبلوماسية لشنّ هجمات سياسية ضدها.
الاستراتيجية المقترحة في الوقت الراهن تركز على:
ضمان الأمن في المناطق الحدودية، إزالة الألغام، ومنع تقدم القوات المعادية داخل الأراضي التايلاندية، مع اتخاذ خطوات يمكن تفسيرها للعالم في إطار “الدفاع المشروع”. ويُفضل تنفيذ هذه الإجراءات قبل أي صدور لقرار أو تدخل رسمي من مجلس الأمن، وذلك لتثبيت الوضع الميداني لصالح تايلاند.
في الوقت ذاته، ينبغي على تايلاند إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة، والعمل عبر آليات إقليمية مثل رابطة آسيان (ASEAN)، لتهيئة فرصة مناسبة لبدء حوارات ثنائية. فالحفاظ على قنوات الاتصال الدبلوماسي – حتى في المستويات الأدنى – يسهم في تيسير عملية إعادة بناء العلاقات في المستقبل دون تعقيدات كبيرة.
من الناحية العسكرية، إذا ازداد الضغط على كمبوديا وتكبّدت خسائر مادية وبشرية أكبر، فقد تميل إلى التراجع والدخول في مفاوضات، وحينها تزداد احتمالات قبول حلول مثل “الانسحاب المتبادل” وترسيم حدود آمنة. ومع ذلك، يجب الحذر من أن يؤدي الضغط المفرط إلى قيام كمبوديا بطلب تدخل خارجي، مما يزيد من تعقيد الموقف.
في الختام، يمكن القول إن إنهاء هذا النزاع يتطلب مزيجًا من الردع العسكري والحكمة الدبلوماسية، عبر اتباع نهج متوازن يحافظ على الأمن القومي دون الانزلاق إلى صراعات دولية موسّعة. فذلك من شأنه أن يمهّد الطريق للحوار والسلام والاستقرار، في حين أن أي تصرف غير محسوب قد يُدخل المنطقة في مرحلة من التوترات الأوسع والأكثر تعقيدًا، قد تستمر تداعياتها لسنوات.
المصدر: المستشارية الثقافية لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بانكوك.