حرب هزّت الإمبراطوريات: الاثنا عشر يوماً التي غيّرت معادلات العالم من طهران إلى بكين ويافا المحتلة

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
ما كشفته مجلة «فورين بوليسي» مؤخراً هو صدى متأخر لحقيقة لم يعد بالإمكان إخفاؤها: لم تعد المعادلات الجيوسياسية تُرسم فقط في البنتاغون، بل يُعاد تعريفها في غرف العمليات في الطهران، وميادين النار في غزة، ومحور المقاومة الذي يضم لبنان والعراق واليمن — محور يتجاهل قواعد أمريكا ولا يخاف من التهديدات النووية.
أمريكا في موقف دفاعي، لا مبادرة
في اعتراف ضمني، تشير المقالة إلى أن تدخل أمريكا المفاجئ والحاسم في الحرب التي دامت اثني عشر يوماً لم يكن بدافع ثقة أو مبادرة، بل نابع من خوف استراتيجي. اضطرت واشنطن للدخول إلى المعركة لأن ميزان الردع كان يتغير لصالح المقاومة — ليس بسبب عدد الصواريخ، بل بسبب تحول في البيئة السياسية والشعبية الإقليمية التي تتجه لصالح طهران.
لأول مرة، لم تتمكن إسرائيل من إدارة الحرب بمفردها. فقد فقد الجيش ونظم الدفاع والمخابرات كفاءتها المطلوبة، مما أجبر أمريكا على إرسال حاملات الطائرات، وتأسيس غرف أزمة، ومراجعة حساباتها في الخليج وأوروبا وشرق آسيا.
الصين: قوة محدودة في لحظات حاسمة
بكين، التي سعت في السنوات الأخيرة عبر الدبلوماسية الاقتصادية ومشاريع مثل «مبادرة الحزام والطريق» لتقديم نفسها كبديل للنظام الأمريكي، اختارت الصمت في لحظة الاختبار. لم ترسل أسلحة، ولم تخصص أموالاً، ولم توفر قطع غيار للأنظمة الإيرانية المتضررة.
هذا التقاعس كشف أن الشراكة الاستراتيجية مع الصين — على الأقل على الصعيد الدفاعي — ما تزال مبنية على المصالح الآنية لبكين، لا على القدر المشترك الأيديولوجي. حتى في أزمة البحر الأحمر، اقتصرت على حماية سفنها وتجاهلت التهديدات المشتركة، كما لو أن شعار «الأمن الجماعي» لا يعنيها شيئاً.
طهران: وحيدة لكنها حاسمة
الأبرز في هذا التقرير هو اعتراف غير مباشر بقوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فقد تمكنت طهران، دون دعم مباشر من الصين أو روسيا، ودون الاعتماد على تحالفات رسمية، من السيطرة على نبض الميدان، وترسيخ معادلة الردع، وإرسال رسائل استراتيجية متعددة الأبعاد إلى يافا المحتلة وواشنطن.
إيران لم تبنِ فقط مستودع أسلحة، بل أسست عقيدة ردع فريدة — مزيج من الجغرافيا السياسية، والإيمان العقائدي، والحساب الدقيق. خلال اثني عشر يوماً فقط، أصبح واضحاً أن محور المقاومة لم يعد مجرد شعار، بل شبكة عملياتية قادرة على خلق أزمات عالمية. ففي صنعاء، عطلت أنصار الله الملاحة في البحر الأحمر؛ وحزب الله استعد لفتح جبهة واسعة من جنوب لبنان؛ والمقاومة العراقية بقيت في حالة انتظار للحظة الصفر؛ وطهران، بهدوء وثقة، كانت من تحدد سقف الحرب.
تايوان؛ ساحة المقامرة القادمة؟
تخلص تقرير «فورين بوليسي» بتحليل سلوك أمريكا والصين تجاه حلفائهما إلى أن أمريكا على الأرجح ستدخل المعركة حتى في حال هجوم الصين على تايوان — حتى لو كان رئيسٌ مثل ترامب في السلطة، والذي تراه بكين منشغلاً بأزماته الداخلية وغير راغب في الحرب.
لكن هذا التحليل يغفل بُعدًا أساسيًا: الصين، بعد مشاهدتها نموذج مقاومة إيران واعتماد طهران على القدرات المحلية والشعبية، تعلم أنه بدون محور عقائدي وروابط شعبية، لا يمكن ضمان الانتصار في أي حرب. تايوان، رغم صغر حجمها، قد تكون بداية التآكل النهائي لهيبة الولايات المتحدة.
الإمبراطورية المنهارة بلباس الحليف
ما تجاهله كتاب المقالة هو أن أمريكا — رغم الضجيج الإعلامي وإرسال الأسلحة — تفقد عنصر “المبادرة الاستراتيجية”. لم تعد الدولة الفاعلة في رسم السيناريوهات، بل أصبحت دمية للتحولات الميدانية. وفي الحرب الأخيرة، ما حافظت عليه واشنطن لم يكن نصرًا لإسرائيل، بل انهيارها النفسي — عبر صدمة مصطنعة من المساعدات العسكرية.
في الوقت ذاته، تتعمق الانقسامات الداخلية في أمريكا؛ الفجوة بين الرأي العام، الأزمات الاقتصادية، وتفكك الوحدة السياسية تحرق البلد من الداخل. في هذه الظروف، لا حاملة طائرات قادرة على إنقاذ نظام متداعٍ.
الديكتاتوريون؟ أم مهندسو البدائل؟
بينما يتهم الكتاب الغربيون إيران والصين وروسيا بـ«الاستبداد»، تقول الوقائع الميدانية شيئًا مختلفًا: فقط أولئك الذين يمتلكون قرارًا مستقلًا ويعتمدون على إرادة شعوبهم هم القادرون على تغيير المعادلات العالمية. هذه حكمة استراتيجية، وليست ديكتاتورية.
الغرور الحقيقي ينتمي لمن يرفضون الاعتراف بهزائمهم في العراق، أفغانستان، أوكرانيا، وفلسطين؛ ولمن يعتقدون أنه بإمكانهم السيطرة على محور المقاومة من خلال تقارير استخباراتية وتحليلات إعلامية.
📌 في النهاية، ما اعترفت به «فورين بوليسي» دون قصد هو أن النظام أحادي القطب ينهار، ومحور المقاومة — حتى في غياب الدعم الرسمي من الصين وروسيا — استطاع أن يوقظ العالم من غفلته العميقة. اثنا عشر يومًا كانت كافية لهزيمة الهيبة الوهمية ليافا المحتلة، ولإدراك واشنطن أنه لم يعد بإمكانها بدء أي حرب دون حساب طهران…