استعادة الاعتبار لمفهوم «الضحية» الفلسطينية في مواجهة الفاشية الصهيونية: من انهيار الأسطورة إلى استراتيجية المقاومة

✍️ نجاح محمد علي – صحفي وباحث في الشؤون الإيرانية والإقليمية:
في خضمّ الحرب الجماعية المستمرة في قطاع غزة، وسط أنقاض المنازل وصور الأطفال تحت الركام، يعاد تشكيل الوعي العالمي بشأن جوهر الصراع: من الضحية ومن الجلاد؟ فالمعركة لم تعد تقتصر على الجغرافيا والسلاح، بل امتدت إلى ساحة المفاهيم والسرديات. وهنا يبرز مفهوم «الضحية» كركيزة استراتيجية أمام فاشية دينية–قومية تُعيد إنتاج أقسى وأبشع أشكال العنف باسم الدين والهوية، كما لم يشهد التاريخ الحديث.
✒️ انهيار الرواية: حين يُضحى الفاشي ضحية
منذ تأسيس الكيان الصهيوني على بقايا النكبة عام 1948، رُوّج لرواية «الضحية الأبدية» اليهودية كتبرير أخلاقي وسياسي للاستيطان والتهجير. استندت هذه الرواية إلى الهولوكوست، حتى صار يُستغل كوثيقة تمنح الحق الأخلاقي في التوسع وارتكاب المجازر، وكأن الهولوكوست «حق إلهي» لسرقة فلسطين.
لكن ظهر بعد ذلك خط المقاومة الفلسطينية، خاصة عقب عملية «عاصفة الأقصى»، وشرع الكشف عن هذه الرواية الزائفة. فهجوم 7 أكتوبر 2023 لم يكن «اعتداء على الأبرياء» فحسب، بل لحظة رمزية وسياسية لكسر ذلك التوازن الكاذب المبني على القمع. بعدها نزفت العمليةَ القتلُ الصهيوني، بدءًا من قصف مخيم جباليا إلى تدمير المشافي، كاشفًا الوجه الحقيقي لهذا النظام العنيف: لا ضحية إلا الفلسطيني ولا جلاد إلا المحتل.
✒️ محو الثنائية: من الجسد إلى المعنى
العدوان الصهيوني لا يقتل البشر فحسب، بل يمحو هويتهم وقصصهم. يتحول الضحية إلى رقم، والمقاومة تُعتبر جرمًا. عندما تُصوّر وفاة الأطفال في غزة كـ«ضرر جانبي»، نكون أمام جريمة إبادة شعبية، وعدوان على الوجود الروحي ذاته.
أمثلة لا تحصى: قرى فلسطينية هُجّرت لتصبح مستوطنات، الأسرى في السجون الإسرائيلية يُحرمون من الهوية القانونية، الثورات الشعبية تُختزل بأنها «شغب»، بينما الجلاد يملك كل أدوات القانون والدعاية.
✒️ الفاشية اليهودية: مصطلح محظور
حين نطلق على الأمور أسمائها الحقيقية، تشتعل المعركة. ولهذا السبب يُمنع استخدام مصطلح «الفاشية اليهودية» في الإعلام الغربي. لكن واقع الاحتلال اليوم يسوّق نظامًا فاشيًا مبنيًا على التمييز الديني–العنصري، وسلب إنسانية «الآخر».
فقط تأمل تصريحات المسؤولين الصهاينة، كوزير الأمن إيتامار بن غفير الذي دعا لمحو غزة من الخريطة، أو قانون «الدولة القومية اليهودية» الذي يُرسّخ تفوق اليهود قانونيًّا. هذه ليست مجرد «تطرّف»، بل جوهر البناء الصهيوني.
ومن هنا يتوجب التفريق بين معاداة السامية – وهي كراهية دينية/عنصرية ضد اليهود – والنقد المشروع لسياسات عنصرية يمارسها كيان أو تيار سياسي في المجتمع اليهودي. مصطلح «الفاشية اليهودية» لا يستهدف اليهود أو ديانتهم، بل يشير إلى نظام سياسي–فكري متطرّف يستغل الدين والذاكرة – كالهولوكوست – لتبرير الاحتلال والتطهير العرقي والعنف المنظّم.
✒️ استعادة المفهوم: «الضحية» كأداة للمقاومة
إرجاع الاعتبار إلى الضحية الفلسطينية لا يعني استجداء الرحمة، بل يعني تفكيك الرواية الصهيونية وتثبيت الحق الفلسطيني كقضية تحريرية وإنسانية جامعة.
أولاً – إعلامياً:
-
وقف استخدام مصطلحات المحتل مثل «الدفاع عن النفس»، «الردع»، «الإرهاب»، واستبدالها بلغات الحق والظلم والمقاومة.
-
تسليط الضوء على أسماء الشهداء وقصصهم وأحلامهم، حتى لا تتحوّل مجازرهم إلى مجرد أخبار عاجلة.
ثانيًا – قضائيًا:
-
تفعيل أدوات القانون الدولي لمحاسبة الاحتلال كـ«مجرم حرب» لا طرفًا في نزاع.
-
استلهام شكوى جنوب أفريقيا في لاهاي كأساس قانوني لتوصيف الكيان الاحتلالي كفاعل تطهير عرقي.
ثالثًا – ثقافيًا وأكاديميًا:
-
دعم رواية الذاكرة الفلسطينية، من شهادات اللاجئين إلى مشاريع سينمائية وفنية توثّق المجازر والتهجير.
-
تفكيك المناهج الغربية التي تمحو الاحتلال وتجرّم المقاومة.
رابعًا – سياسيًا:
-
إطلاق تحرّك دولي ضد الازدواجية وتعرية استسلام الغرب للابتزاز الصهيوني بحجة «معاداة السامية».
-
إطلاق حملات مستمرة في الهيئات الدولية لسحب صفة «الضحية» عن الاحتلال وتجريمه كعدو دائم.
✒️ تفكيك الكذبة قبل أن تصبح “حقًا دوليًا”
المحتل لا يكتفي بهدم الحاضر، بل يسعى لصوغ مستقبلٍ كاذب يصوّره فيه نفسه «دولة مهددة»، بينما تُجرّم فيه المقاومة على أنها المعتدية.
في أوروبا، تُسجن من يرفض منتجات الاحتلال بتهمة «التحريض»، ويُطرد أساتذة جامعات مؤيدون لفلسطين، وتُجعل حملات قانونية ضد الكيان تُوصف بـ«معادية للسامية»، في مشهد يشير إلى أن الكذب يتحوّل إلى سياسة دولية مهيمنة.
🔻 الضحية التي تكتب التاريخ
الفلسطيني ليس ضحية تنتظر العطف، بل إنسان ذو قضية وحق وهوية ومقاومة. استعادة هذا المعنى هو رمح المعركة الوجودية مع نظام فاشي احتلالي يُعيد إنتاج نفسه يوميًا في الكلام والسلاح والتحالفات.
هذه معركة الذاكرة والحق والوعي… وإذا لم تنتصر هنا، فسيُحسم في الميدان لصالح الكذبة.