إعدام جاسوس: عندما تحوّل عالِمٌ نوويّ إلى بوّابة للعدو”

نجاح محمد علي، صحفي وباحث مختص بشؤون إيران والمنطقة:
لم يكن صباح الأربعاء سوى إنذار جديد، لا يُغفل ولا يُؤجل. ليس لأنه حمل خبر إعدام رجلٍ بتهمة التجسس فحسب، بل لأنه أزاح الستار عن خللٍ أعمق من مجرد اختراق أمني في مؤسسة حيوية؛ بل عن طبقات من الحرب الخفية الدائرة في صمت، والتي يخوضها الكيان الصهيوني القاتل للأطفال ضد إيران، ليس بالطائرات ولا بالصواريخ، بل بالعقول والروابط والنوافذ الرقمية الصغيرة.
روزبه وادي، الذي عمل في واحدة من أهم المؤسسات المرتبطة بالبنية العلمية النووية لإيران، لم يُعدم لأنه كتب بحثًا علميًا أو تواصل مع زملاء. أُعدم لأنه تحوّل إلى مدخل، إلى “سوكت مخفي” أي (منفذ) يمكن للعدو من خلاله أن يتنصّت على نبض الدولة من داخلها.
اللافت في القضية ليس حجم الأضرار المباشرة، بل خطورة المسار الذي سلكه وادي. اختراقه تم عبر ما يُسمّى بـ”المجال السيبراني”، وأول تواصل له كان عبر الإنترنت، وليس عبر لقاء ميداني أو شبكة معقدة. هذا تفصيل لا يجب أن يُهمَل.
الضابط المزعوم “الكس”، الذي ظهر في تقارير الجهات الأمنية، لم يحتج أكثر من تقييم رقمي ليحكم بأن وادي بات جاهزًا للانتقال من مرحلة الاختبار إلى العمل المباشر. الانتقال من التقييم إلى التكليف، من الفضول إلى الخيانة، لم يستغرق وقتًا طويلاً. هوة الانحدار بدأت من جهازه الشخصي، وليس من بوابة سفارة غربية.
الإشارات التي تكشفها هذه الواقعة كثيرة، أهمها أن تحوّل بعض الباحثين أو المتخصصين إلى أهداف، لا يعني دومًا أنهم جواسيس بالفطرة. بل قد يكونون ضحايا إهمال أمني، أو ضعف في المرافقة الاستخبارية الداخلية. في دول المواجهة، لا يكفي أن تكون المؤسسة العلمية “مُؤمَّنة”، بل يجب أن تكون البيئة الشخصية والرقمية للعاملين فيها مراقبة ومحاطة بخطوط دفاع غير مرئية.
الكيان الذي يقف خلف هذا الاختراق ليس غريبًا على هذا النوع من الحروب. الكيان الصهيوني لا يراهن فقط على التفوق العسكري، بل على التسلل إلى نقاط العصب والقرار والمعرفة. وتاريخ الاغتيالات والتجنيد والاختراقات العلمية في المنطقة يثبت أن الحروب الحديثة لا تخاض فقط على الأرض، بل في المختبرات والهواتف والمكاتب.
الحديث عن زيارة وادي إلى فيينا للقاء ضباط الاستخبارات، بحسب الرواية القضائية، يشير إلى أن الشبكات التجسسية لا تعمل فقط من داخل، بل ترتب للقاءات وتوجيهات في أماكن تُعتبر “محايدة”، ويُفترض أن تكون فضاءات علمية أو دبلوماسية. هنا، يجب إعادة النظر في مفهوم السفر العلمي أو التمثيل الأكاديمي في الخارج، وتفعيل آليات تحقق غير شكلية على كل من يمثل المؤسسات الحساسة خارج البلاد.
وبدأ التعاون الرسمي وادي مع الموساد.
لكنّ هذه العلاقة لم تكن بلا ضحايا. لم تكن مجرّد خيانة نظرية، بل تحوّلت ـ وفق ما كشفته اعترافاته ـ إلى مدخل مأساوي لموت اثنين من أبرز العقول النووية في البلاد. فقد اعترف وادي أنه سبق ونشر بحثًا علميًا مشتركًا عام 2011 مع كل من الدكتور عبدالحميد مینوچهر والدكتور أحمد ذوالفقاری، وهما من كبار المتخصصين النوويين الذين سقطوا لاحقًا في عمليات اغتيال معادية خلال فترة ما بعد الحرب الثانية عشرة.
“وقد أقرّ وادي خلال التحقيق أنه نقل معلومات حول بعض العاملين في البرنامج النووي الإيراني، مما يؤكد للأجهزة الأمنية أنه أسهم بشكل مباشر في تمكين العدو الصهيوني من تحديد أهدافه بدقة وتنفيذ عمليات الاغتيال.”
لم يكن القتل هنا اغتيالًا فرديًا، بل ضربة مبرمجة للركائز العلمية الاستراتيجية لإيران، نُفِّذت عبر منفذ بشري صغير، كان في يوم ما شريكًا في الورقة البحثية، ثم صار بوّابة موت لزملائه.
ليس سهلًا الحكم من الخارج على مدى تورّط وادي. لكن المؤكد أن اختراقًا من هذا النوع، وبمستوى الاختصاص الذي كان عليه، لا يمكن أن يُختزل فقط في “حادثة فردية”. ما جرى ليس عن وادي فحسب، بل عن شبكة إلكترونية، ورغبة استخبارية في رصد النبض النووي الإيراني، بل ومحاولة مستميتة لإعادة تدوير الحصار عن طريق التجسس لا عن طريق العقوبات.
الرد الأمني كان حازمًا، لكن هذا لا يُغني عن مراجعة المنظومة ككل:
• من يراقب سلوكيات العاملين في المنشآت الحساسة رقميًا؟
• كيف تُدار علاقاتهم الخارجية؟
• هل توجد شبكة دفاع غير مرئية تراقب دون تدخل، وتجمع مؤشرات قابلة للتحليل والتوقع؟
• هل المؤسسات العلمية محصّنة نفسيًا أمام الإغراءات التي تُقدَّم لموظفيها؟
الجواب لا يمكن أن يكون ضمن تقرير صحفي. لكنه يجب أن يكون مطروحًا على طاولة النظام الأمني الوطني، لأن المعركة دخلت الآن مرحلة “اصطياد العقول”، لا تدمير المواقع.
قد يتساءل البعض عن توقيت الإعلان عن الإعدام، وهل يرتبط فعلًا بالرد على العدوان الصهيوني في “الحرب 12 يومًا”. التفسير واضح لمن يعرف أدوات الردع غير المباشرة. فكما يُطلق صاروخ استراتيجي ليقول “نحن هنا”، كذلك يُعلَن عن إعدام جاسوس في لحظة مناسبة ليقول “العيون مفتوحة، ولن تمروا من جديد”.
الكيان الصهيوني قاتل الأطفال لم يتوقف منذ عقود عن التجسس، لا على إيران فقط، بل على كل من يُفكر أن يرفع رأسه في وجه هندسة الاستعمار الجديد. لكن الفارق أن إيران لا تساوم على أمنها، حتى لو تطلب ذلك أن تنشر تفاصيل حساسة لتقول للداخل والخارج: لا أحد فوق الرقابة.
يُعد هذا الإعدام أكثر من قرار قضائي. هو بيان أمني، ورسالة مزدوجة: للعاملين في المؤسسات الحساسة، أن لا مجال للهوامش الرمادية؛ وللعدو الصهيوني، أن اختراقاته مكشوفة مهما تخفّت وراء أسماء مستعارة مثل “كوين” أو “الكس”.
الأمن يبدأ حين تكون العيون مفتوحة حتى على أقرب المقربين. والوفاء للوطن لا يُقاس بالشهادات الأكاديمية، بل بمدى نظافة القلب من أهواء الطمع والتورط. كل من يعتبر نفسه “ذكيًا بما يكفي” ليلعب على الحبلين، عليه أن يعلم أن يد العدالة ـ حين تتحرك ـ لا تتردد.